رواية/الملعونة

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه
طرح رائع ... واصلي التميز في العرض




‏​..«۩™هٍَـِِّـِِّـِِّلآ™۩». فيك أخوي الغالي أمير

يسعدني متابعتك

لا عدمناك
 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه
"

الفصل 31.


خرج عماد من المصنع ظهرا وتوجه للمستشفى حيث ترقد ريم فاليوم موعد خروجها . ستخرج لوحدها وسيبقى الطفل بين يدي اﻷ‌طباء والممرضات . شعر بالضيق وهو يتذكر اتهامها بأنه السبب في وﻻ‌دتها المبكرة ، وبأنها لن تسامحه لو أصاب الطفل مكروه . أوقف سيارته ودخل بأفكاره المضطربة . ذهب إلى مكتب شؤون المرضى ودفع فاتورة حساب الخاصة بريم والطفل حتى اليوم وصعد إلى الطابق الثاني وتوجه إلى الحضانة أوﻻ‌ ليرى الطفل . وجد على حاله ، نائم على ظهره ونفس اﻷ‌سﻼ‌ك واﻷ‌نابيب وشاشة المراقبة متصلة به . شعر بالضيق والطبيب يخبره أن مستوى اﻷ‌كسجين تناقص منذ الصباح . ذهب لغرفة ريم واقترب منها وقبل ما بين عينيها . قالت له وهي على وشك البكاء :
- ﻻ‌ أتخيل نفسي بأني سأخرج من المستشفى وطفلي ليس معي .
ضمها إليه وبكت بحرقة على كتفه . قال لها :
- سيتحسن بمشيئة الله وسيكبر وسيخرج من المستشفى .
خرجا من الغرفة ، ومرا بالحضانة في طريقهما وأخبرتهما الممرضة بأنهما يستطيعان رؤيته في أي وقت يشاءان .

قاد عماد سيارته وريم بجانبه تبكي طوال الطريق من المستشفى إلى منزل والديها . طلبت من زوجها أن يصطحبها لزيارة الطفل مرتين يوميا فوافقها . تناول معها طعام الغذاء ثم جلس في الصالة بعد أن خلدت للراحة في الغرفة التي خصصتها أمها لها . أسند رأسه إلى الوراء وأغمض عينيه وهو يفكر بطفله الراقد في المستشفى . لم يختر له أسما بعد ولم يخطر بباله اﻷ‌مر فقد كان مشغوﻻ‌ بسﻼ‌مته وصحته ، لم يفكر كأي أب إذا كان طفله يشبهه أو يشبه أمه . تنبه على دخول أمل وعصام إلى البيت وهما في غاية اﻻ‌نسجام واﻻ‌بتسامة تزين وجهيهما . تنهد وهو يفكر بهما فلم تربطهما عﻼ‌قة حب قبل زواجهما إﻻ‌ أنهما سعيدين . جلس عصام بجانبه وسأله عن الطفل وأخبره بما قاله الطبيب اليوم ، وما هي إﻻ‌ لحظة حتى رن هاتفه الجوال . رد على المتصل وأخبره بأنه الطبيب المشرف على عﻼ‌ج الطفل ويريد أن يراه اﻵ‌ن . شعر بالقلق والخوف فنهض ليذهب إلى المستشفى وذهب عصام معه .
قاد سيارته بسرعة عالية ، وصل إلى المستشفى وقلبه ينبض بقوة ..
دخل بخطى سريعة ومر بحضانة اﻷ‌طفال اﻷ‌صحاء والعناية المتوسطة وأمام باب العناية المركزة استوقفه الطبيب قائﻼ‌ :
- أهﻼ‌ يا سيد عماد .
بلع ريقه وقال :
- خيرا يا دكتور .. هل طفلي بخير ؟
أعتذر منه الطبيب بأسف قبل أن يخبره بأن الطفل قد توفي قبل ساعة تقريبا ، وأحضرته الممرضة في مهد صغير . فغر فاه ونظر للطفل نظرة سريعة والعرق تجمع في جبينه وقال للطبيب :
- لماذا ؟.. ما الذي حصل ؟
- هبطت نسبة اﻷ‌كسجين في دمه بشكل حاد ولم يستجيب للعﻼ‌ج أو لﻺ‌نعاش الرئوي .
أقترب من الطفل ووجده ملفوف في قطعة قماش بيضاء مغمض العينين وهادئ في سﻼ‌م تام ولم يكن بطنه يعلو ويهبط بسرعة .
أمسك عصام بكتفه وقال له مواسيا :
- ﻻ‌ حول وﻻ‌ قوة إﻻ‌ بالله .. طفل صغير ومثواه الجنة .
ظل عماد يمعن النظر في وجه طفله الساكن كمﻼ‌ك صغير ودموعه تبلل قماطه اﻷ‌بيض . شعر بأنه يحبه بشكل كبير وكأنه عاش معه لفترة طويلة وليست ثﻼ‌ثة أيام في المستشفى . مات طفله ولم يﻼ‌عبه ولم يسمع بكاؤه ، ولم يراه يشرب الحليب ولم يحمله بين يديه . رفع رأسه والطبيب يطلب منه إنهاء اﻹ‌جراءات الخاصة باستﻼ‌م جثة الطفل وكم كان لهذه الكلمة وقع قاسي على مسمعه . عزاه عصام وطلب منه أن يتماسك عندما أحس بأن الدم أنسحب من وجهه وهو يتلقى الخبر . انحنى نحو المهد وراح يحدث الطفل بعتب :
- لماذا ﻻ‌ تريد البقاء معي ومع أمك يا حبيبي .. أﻻ‌ أستحقك ألهذا رحلت عني .. أبقى معي وسأكون والدا صالحا .
وألتفت لعصام وقال له وعينيه السوداويين غارقتين بالدموع :
- ماذا أقول لريم اﻵ‌ن ؟.. فهي لن تسامحني .. ماذا أقول لها ؟
- هذه مشيئة الله وأنت ﻻ‌ ذنب لك بما حدث .
وأمام عينيه تم إرسال الطفل لثﻼ‌جة الموتى وعليه ن يستلمه بعد أن ينتهي اﻹ‌جراءات الخاصة به ويدفع فاتورة العﻼ‌ج . أسند ظهره على الجدار وأتصل بوالده وابن عمه وصديقه ليحضروا ويساعدوه في الدفن .
أودع طفله تحت طبقات التراب بجانب قبر شقيقه . بكى على القبر بحرقة وذكريات موت عﻼ‌ء ودفنه تطوف بباله . تذكر كيف بكى بحرقة ذلك اليوم يشعر بالشعور ذاته . يدفن طفله البالغ من العمر ثﻼ‌ثة أيام واﻷ‌لم يعتصر قلبه وروحه ويفكر بريم وكيف سينتقل لها الخبر . تركها نائمة ﻻ‌ تدري بما حصل ، وأصر أن يدفن الطفل دون أن تراه . دعاه والده للنهوض من القبر الصغير وطلب منه أن يتماسك . عانق والده وبكى على كتفه وهو يخبره بأنه يشعر بمرارة فقدان ابنه كما شعر هو عندما قتل عﻼ‌ء . أمسك به ماجد وأخذه إلى السيارة متوجهين إلى بيت عمته ليخبروا ريم بوفاة طفلها .
لم يبك عماد كما بكى اليوم . بكى عندما مات عﻼ‌ء ، وليلة زفاف كاميليا واليوم ترك طفله تحت التراب وﻻ‌ يعرف إذا كان جائعا أو مريضا أو يشعر بالبرد أو الحر ، أودعه لرحمة رب العالمين ورحل . أغمض عينيه وهو جالس بجانب عصام الذي قاد سيارته بدﻻ‌ عنه منذ خروجهما من المستشفى . شعر بمرارة وأخفى وجهه بين كفيه وبكى وعصام يطلب منه أن يتماسك . دخل منزل عمته ورأسه منكس وجسمه منهار وروحه متعبه ووجهه أصفر وبياض عينيه أصبح داميا . دخل الصالة مع والده وفيصل وعصام ووجد أمه وأختيه جالسات مع زوجة عمه وابنتيها يشربن القهوة وريم مستلقية على إحدى الكنبات متدثرة بلحاف خفيف بعد أن رفضت الجلوس في الغرفة التي أعدتها لها أمها وسرعان ما هبت له ريم بذعر وسألته :
- هل حدث ﻻ‌بني شيء .. ما بك ؟
تنهد وهو يقترب منها فعرفت بغريزتها بأن مكروها أصابه فقالت له وهي تبكي :
- ﻻ‌ تقل بأن طفلي مات .
هز رأسه وقال بألم :
- نعم .. توفي الطفل .
وأمام الجميع جلست على الرخام الصالة وهي تنتحب بقوة وتقول بحرقة :
- مات طفلي وأنت السبب .. لم أتمكن حتى من إرضاعه .
أقترب منها وحاول أن يضمها إليه فرفضت وصرخت به طالبة أن ﻻ‌ يقترب منها وﻻ‌ يلمسها فهو سبب موت الطفل . بلع ريقه وقال لها بانكسار :
- ﻻ‌ ذنب لي فيما حصل يا ريم فهو طفلي أيضا .
شعر بالمرارة والندم لما حدث بينهما تلك الليلة فليته لم يتشاجر معها ولم يترك المنزل . كان مستعدا لفعل أي شيء ليتجنب هذا الموقف اﻷ‌ليم . نهضت أمه وأختيه يواسونه وعمته تحتضن أبنتها وتشاركها دموعها .
اقترب والده من ريم وقال لها :
- الله أخذ أمانته يا ابنتي وتلك مشيئته وحده .. أصبري وسيعوضك الله بأطفال آخرين فأنت صغيرة وتتمتعين بصحة جيدة .
كانت تبكي بشكل موجع وهي مكانها في وسط الصالة وعماد بعيد عنها ﻻ‌ يستطيع أن ينظر لها . تكلمت من بين دموعها وسألت خالها :
- أين طفلي اﻵ‌ن ؟
- لقد دفناه يا ابنتي هو حوري صغير ومثواه الجنة .. وسيكون هذا الطفل رحمة لك ولوالده يوم القيامة ..
"
 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه
"

الفصل 32.


دخل منزله الخالي ورمى بحقيبته الجلدية على إحدى الطاوﻻ‌ت ، وطلب من الخادمة أن تجلب له العصير في الحديقة . توجه إلى مكتبه وتفحص بسرعة بريده الذي لم يفتحه منذ مرض ريم ووﻻ‌دتها أخذ جريدة اليوم وذهب للحديقة . جلس على الطاولة يشرب العصير واسترسل في القراءة إلى أن وصل إلى الصفحة الثقافية وهمسات من قلبي ..

" أنت تشغل تفكيري وأفكر بك رغما عني.
وجهك أمامي وعينيك السوداويين تحاصرني.
لماذا تضيق بي الدنيا إذا مسك مكروه ؟
لماذا أغضب إذا غضبت ؟
ولماذا يبكيني ما يبكيك.
ويزعجني ما يزعجك ؟
أنت تشغل تفكيري وﻻ‌ أدري لماذا ؟
لماذا أراك في كل مكان ؟
وأفكر بك في جميع اﻷ‌حوال.
وإذا وضعت رأسي ليﻼ‌ على الوسادة.
أراك مستلقيا بجانبي .. هادئا ونائما.
وظل أراقبك وأنظر لجبينك المضي.
وأتمعن في عينيك وحاجبيك.
وأردد اسمك في قلبي.
لكنك لست هنا ..
وهذا هو حالي وأنت ﻻ‌ تعلم.
أفكر بك دائما .. وﻻ‌ أدري لماذا ؟


كاميليا الناصر.
الرسالة الثالثة .. والبقية تأتي.
................................


تنهد ووضع الجريدة جانبا وهو يشعر بأن شيئا ما يجثم فوق صدره ويمنعه من أخذ النفس وبراحة . خلع مﻼ‌بسه وقفز في بركة السباحة . سبح فيها وهو يفكر في حياته وكاميليا وريم والطفل الذي لم يرد البقاء معه غطس في الماء وهو يفكر برسائل كاميليا الموجهة إليه في الجريدة ، هو الوحيد المعني بهذه الرسائل أو الهمسات كما تسميها . سأل نفسه كيف يطرأ على بالها عندما تفكر به ؟ . هل مازالت تحترمه وتقدره ، ولماذا تستمر بإرسال حتى اﻵ‌ن ؟ كانت تحبه وصدمت به كما صدمت به ريم عندما أصبحا زوجين يعيشان في بيت واحد .
أخرج رأسه وأخذ نفسا عميقا وعاد للغطس وهو يفكر . ماذا يفعل مع هاجسه بكاميليا ، هذا الجرح اﻷ‌صيل الذي ﻻ‌ يبتعد عنه وﻻ‌ يفارقه ، والوجع المزروع في قلبه منذ ما يزيد على اﻷ‌ربعة أعوام حتى اليوم . قضى أسبوعان وحده في البيت ، يصحو ويذهب إلى الشركة ويعود ويقرأ الجريدة وينام . وليﻼ‌ يستقبل ماجد وفيصل أو يبقى وحده . لم يكن يذهب إلى المزرعة وﻻ‌ يسهر في المقهى وﻻ‌ يستمع لفيروز . أسبوعان وهو دائم التفكير بكاميليا والطفل الذي فقده وبشقيقه الراحل . دائما يفقد من يحبهم ، وإذا لم يأخذهم الموت يضيعهم بعناده وغروره وغباءه . رفع رأسه من تحت الماء وتنفس بعمق وهو يتذكر حبه الجامح لكاميليا الذي دفعه إلى السفر وراءها إلى باريس قبل سنتين . كان مندفعا نحوها كمراهق صغير مبهور بامرأة .

**********.

خرجت كاميليا من الحمام وهي تلف منشفة زهرية اللون على جسدها المبلل ، ووضعت قطرات العطر الزيتي في أنحاء متفرقة منه ، وارتدت مﻼ‌بسها المكشوفة كما يسميها ناصر . كان يعنفها إذا ارتدت مﻼ‌بس تظهر مفاتنها وخصوصا عند خروجها من البيت . رشت عطر : " ألور " خلف أذنيها وفي معصميها وأعلى صدرها وجففت شعرها ورسمت الكحل اﻷ‌سود حول عينيها وبدأت تعد الضيافة قبل أن تأتي صديقتيها لزيارتها .
جاءت أمل وحدها على أن تأتي نسرين ﻻ‌حقا .
وسألتها أمل :
- وأختك شذى ألن تأتي ؟
تنهدت وأجابت :
- لديها امتحانات .. يبدو أن دراسة الحاسب اﻵ‌لي صعبة في الكلية .
بدت كاميليا متعبة فسألتها أمل عن السبب وأخبرتها بأن ناصر غادر صباح اليوم إلى رأس تنورة بعد أن قضى معها ثﻼ‌ثة أيام أتعب فيها أعصابها . ابتسمت أمل وسألتها :
- وكيف هي أموركما ؟
رفعت حاجبها بﻼ‌ مباﻻ‌ة وهي تتحدث عنه :
- أسوأ عما قبل .. فكرت بترك البيت ولكن والدي سيعيدني رغما عني لذا بقيت .
- وهل مازال يستخدم العﻼ‌ج ؟
- لقد عرفت بالصدفة أنه مصاب بارتفاع ضغط الدم أيضا .. لقد نسي بعض اﻷ‌وراق في ثوبه المتسخة ورأيت فيها وصفة طبية ﻷ‌دوية ارتفاع ضغط الدم والكولسترول .
اتصلت نسرين بكاميليا تعتذر عن القدوم فهي ستخرج مع عماد ، فاستغلت الفرصة وسألت صديقتها بمكر :
- عماد سيخرج مع نسرين .. ولماذا ﻻ‌ يخرج مع زوجته ؟
وبعفوية أجابتها :
- ريم مازالت معنا في المنزل وتحمله مسؤولية وﻻ‌دتها المبكرة .. وابن عمي حزين منذ وفاة الطفل .. يبقى في منزله وحده وﻻ‌ يخرج إﻻ‌ للعمل فقط .
رجف قلبها وسألت أمل :
- أليس سعيدا مع المتعجرفة ؟
هزت رأسها نافية وقالت :
- ﻻ‌ يبدو ذلك .
سكتت للحظة ثم أردفت تكمل حديثها عن عماد :
- شخصيته غريبة بها خليط من القوة والرصانة ويميل إلى الهدوء وكثرة التفكير وعدم البوح بشيء .. وعينيه السوداويين متكتمتين وقويتين .
سألته بفضول عن عﻼ‌قة بزوجته ، فهزت كتفيها وقالت :
- ﻻ‌ أعرف .. فهو جاف معها وهي بدأت تمل من طباعه وبروده .. ربما ﻷ‌نهما لم يعرفا بعضهما جيدا قبل الزواج فهي قضت سبع سنوات في كندا ولم تكن قريبة منه قبل زواجهما.
لوت كاميليا فمها وقالت بانزعاج :
- ﻻ‌ أستسيغها أبدا منذ الموقف الذي حدث يوم زفافك .
- هي تفكر بالسفر إلى لندن أو كندا من أجل التدريب لعدة أشهر .. وراسلت العديد من المستشفيات الجامعية وتنتظر الرد .
ابتسمت عينيها العسليتين وسألتها :
- وهل واقف عماد ؟
- سيوافق .. أشعر وكأنه يريد اﻻ‌بتعاد عنها .
ابتسمت كاميليا لما قالته أمل وشعرت بالقليل من السعادة ﻷ‌ن عماد ليس سعيدا مع زوجته وهو بالتأكيد مازال يفكر بها ويحبها ، وهمساتها تجد صدى لديه .

********.
عادت ريم إلى زوجها بعد شهر ونصف من وﻻ‌دتها . وافقت بصعوبة فقد كانت تريد قضاء المزيد من الوقت مع والديها لكن أمها أقنعتها بضرورة العودة . عادت مع عماد الذي ضمها إليه دون رغبة سوى لتخفيف عنها لتتوقف عن ترديد أنه السبب في وﻻ‌دتها المبكرة . كان يشعر بأن حواجز جلدية تراكمت بينهما أكثر مما مضى ، فبينهما طفل غائب ومشاعر بادرة وجمود وﻻ‌ مباﻻ‌ة . جلست في الركن الفرنسي صامتة ولم يستطيع أن يفتح معها أي موضوع ، وعندما ذهبت لغرفتها ذهب إلى غرفة المكتب وجلس يطالع اﻷ‌وراق التي جلبها معه من الشركة . جاءته بعد مدة وجيزة وجلست قبالته وهي تلف الروب اﻷ‌بيض على جسدها وقالت له :
- لقد راسلت عددا من المستشفيات الجامعية في كندا ولندن من أجل قضاء فترة تدريبية هناك .. ومازالت أنتظر الرد .
زم شفتيه وعينيه تتأمﻼ‌ن جسدها الممشوق وسألها :
- تريدين السفر لوحدك .. أنت لم تخبرني بهذا اﻷ‌مر مسبقا .. وكم ستغيبين هناك ؟
- بين اﻷ‌ربعة والستة أشهر .
- وأنا ؟
تنهدت وقالت بلهجة لم تخلو من السخرية :
- أبقى هنا .. أعمل وأقرأ الجرائد وأذهب مع ماجد إلى المقهى ونهاية اﻷ‌سبوع أقضي وقت فراغك في المزرعة .. ﻻ‌ أظن وجودي سيفرق معك .. عادي .
أطال النظر إليها وسألها :
- ولماذا تكلمني بهذه الطريقة ؟
تغيرت نبرة صوتها وهي تقول :
- وبأي طريقة تريدني أن أكلمك .. فأنت ﻻ‌ تهتم بي وﻻ‌ بوجودي .
سألها بلهفة :
- أﻻ‌ تريدين اﻹ‌نجاب مجددا .. أبقي معي ودعينا ننجب طفﻼ‌ .
استغربت من طلبه فهي تتذكر ردة فعله وبروده عندما أخبرته بأنها حامل فهو لم يبالي وكان مصدوما ومتضايقا ، لكنه أعاد ما قال :
- أتمنى أن يكون لي طفل .. وأفضل أن تبقي معي وتكتفي بالعمل والتدريب هنا .
تنهدت وقالت له :
- أحتاج إلى التفكير بعمق قيل خوض التجربة من جديد .. حملي ووﻻ‌دتي وموت طفلي تركوا في روحي جروحا عميقة .
أنهت حديثها وعادت لغرفتها ، وضع أوراقه جانبا وتبعها . رمقته بنظرة باردة عندما دخل الغرفة ، ولم تكترث له وبسرعة اختبأت تحت لحافها . أقترب منها وأمسك يدها وطبع عليها قبلة وهي تنظر له بعينين ﻻ‌ ترمشان . اقترب منها وعنقها بشفتيه فقالت له بأنها متعبة ومزاجها سيء واستدارت للجانب اﻵ‌خر . تضايق لرفضها فهذه المرة اﻷ‌ولى التي تفعلها منذ زواجهما ، كانت دائما تنتظره واﻵ‌ن تصده .

*****.

خرج عماد من الشركة وتوجه إلى منزل والديه مباشرة ﻷ‌ن ريم لديها مناوبة في المستشفى وستعود صباح الغد . جلس مع أمه يشرب شاي النعناع حاولت أن تقنعه للمرة اﻷ‌خيرة بخوض اﻻ‌نتخابات البلدية فوالده سيدعمه بقوة فأكد لها بأن اﻷ‌مر ﻻ‌ يعنيه . تحدثا بشأن ريم وسفرها فقد وصلتها الموافقة من لندن لقضاء أربعة أشهر في أحد أهم وأكبر مستشفياتها وهي مصرة على السفر بعد شهر . قالت له أمه بحزم :
- أنت زوجها وتستطيع منعها من السفر إذا أردت .
قال باستخفاف :
- هي مصرة على السفر .. سأدعها تسافر ﻷ‌رتاح منها بعض الوقت .
سكت للحظات وسألها عن نسرين فأجابته :
- مع كاميليا وأمل .. تزوجتا ومازالتا تتصرفان كالسابق .. واحدة ﻻ‌ يمانع زوجها بخروجها واﻷ‌خرى زوجها يعمل بعيدا .
مازال يريد معرفة المزيد عن كاميليا وأخبارها ، واستغل الفرصة فسأل أمه :
- ومن هي من يغيب عنها زوجها .. كاميليا أم سماح .
- كاميليا طبعا فسماح ليست هنا .. هي في أمريكا .
وسألها بلهفة :
- وكاميليا ؟
- زوجها يغيب أربعة أيام .. وخﻼ‌لها تخرج وتفعل ما تريد .
وسكتت للحظة ثم طلبت منه أن يحجز لها مع زوجة عمه تذاكر للسفر إلى إيران .
رفع حاجبيه وهز رأسه موافقا وقال :
- الليلة سأذهب لكتب السفريات وأحجز لكما..


"__________________
 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه

الفصل 33

أستيقظ عماد من نومه على صوت ريم في السابعة مساء . غسل وجهه وأخذ الجريدة بصمت وهم بالخروج فاستوقفته تطلب منه مرافقتها إلى السوق لشراء ملابس قبل السفر . هز رأسه موافقا وذهب للجلوس في الركن الفرنسي ، يطالع جهاز التلفزيون ليسمع الأخبار بصوت منخفض وهو يقرأ . أحس وكأن يدا تعصر قلبه عندما رأى زاوية همسات من قلبي موجودة . ماذا كتبت له كاميليا هذه المرة وأي رسالة توجهها إليه . همسات عتاب أم تعبير بالخيبة ، أم تذكير بالماضي أم ماذا ..

" تسألني باريس عنك
تسألني الجسور والعطور
تسألني العشاق والزهور
تسأل عنك مياه السين الهادئة
والأمسيات الحالمة
باريس تذكر حبنا
وتذكر لمسة اليد الحنونة
وتلك القبلة اللذيذة المجنونة
وورود باريس وحدائقها
ومياهها ومقاهيها وحلوياتها
ولياليها وأحلامها ونسماتها ..
" ألور " يسأل عنك
و" الياقوت الأحمر " في يدي
والكحل الأسود في عيني
وحبة الخال في زاوية فمي ..
يسألون عنك ..



كاميليا الناصر
الرسالة الرابعة .. والبقية تأتي .
..............................


أعاد قراءة ما كتبته كاميليا مرة أخرى .. وتساءل لماذا تذكره بباريس وبكل ما يحبه فيها ؟ . لماذا هي مصره على تذكيره بالحب الذي جعله يتبعها إلى باريس عندما سافرت ، وتذكره بهداياه وقسوته عليها . ما الذي تريده من هذه الرسائل الخفية ؟. هذه الرسالة الرابعة وهي لم تتوقف ومازالت تعده بالمزيد . كم ستستمر بإرسال الرسائل والعتاب والهمسات المبطنة . وهو يفكر بها وبهمساتها وذكريات باريس تطوف بخياله . تنهد عندما لمح ريم تقترب منه ، جلست بجانبه وقالت :
- أريد أن أشتري معطفا سميكا وبعض الملابس الدافئة فالجو في لندن بارد جدا .
ظل ساكتا غير مهتم بما تقوله وعطر الماضي يثير فيه المزيد من الذكريات ، فأكملت ريم حديثها :
- أتصدق أن أعلى درجة تصل إليها الحرارة في لندن على مدار السنة هي ثلاث وعشرون درجة مئوية .
تأفف وطلب منها أن تلغي سفرها فهو لا يحبذه ، فقالت له بانفعال :
- تقول هذا بعد أن حصلت على التأشير وحجزت تذكره السفر .. وحصلت على الموافقة من وزارة الصحة وسأسافر بعد أسبوع .
زم شفتيه وقال بنبرة حادة :
- تستطيعين إلغاء السفر لو أردت .
أجابته بأنها لن تفعل ذلك فهي ليست مضطرة لتحمل تردده وتقلب آرائه . شعرت بالغثيان وهي تطلب منه أن يستخرج لها تصريحا بالسفر ، فهذا أمر مذل . هي امرأة راشد لا تستطيع أن تسافر بدون أن يأذن لها ولي أمرها ، كم تكره هذه الكلمة البائسة فعلى زوجها أن يعطيها موافقته الرسمية وإلا لن تسافر .
- سأذهب غدا للجوازات واستخرج التصريح .
قال جملته وأخذ الجريدة وتوجه لغرفته فلحقت به وسألته :
- متى سنذهب إلى السوق ؟
طلب منها أن تذهب لوحدها فهو سيخرج للقاء أصحابه وأمامها خلع بيجامته وارتدى ملابس الخروج ووقف أمام المرآة يمشط شعره . وقفت أمامه عبر المرآة وصرخت به :
- لماذا تعاديني ؟
استدار لها وطلب أن تتكلم بهدوء فأجابته بصوت مرتفع :
- أنت وعدتني .
أطال النظر إليها وطلب منها الكف عن الصراخ والذهاب مع السائق .
- أي أصدقاء تتحدث عنهم .. ليس لديك غير ماجد وفيصل .
سكتت للحظة ثم قالت بسخرية :
- لو رشحت نفسك في مجلس البلدي .. سيصوت لك ماجد فقط من خارج العائلة .
لم يجبها فضحكت باستهزاء وقالت :
- تخيل ستكون أقوى الخاسرين !
استدار نحوها وقال بازدراء :
- أترفع عن الإجابة على غبية مثلك .. وهذه الانتخابات لا تعنيني ولن أعطي صوتي لأحد .
بروده زاد غضبها فصرخت به :
- لن أدعك تخرج معهم وستذهب معي إلى المجمع التجاري رغما عنك .
سكت وأخذ مفاتيحه ومحفظته وهاتفه وهم بالخروج من الغرفة لكن جملتها الأخيرة استوقفته عندما قالت له بتهديد :
- إذا خرجت فلن تجدني عندما تعود .
أغمض عينيه ولأول مرة يتمنى أن يسكتها بأي وسيلة حتى وإن اضطر لضرب رأسها بالحائط ، لكنه كتم غيظه وقال لها :
- أذهبي إلى جهنم .. والحمد الله لست حاملا هذه المرة لأكون سبب ولادتك المبكرة .
صعقها رده فقالت :
- ألا تهتم بي لهذه الدرجة .. كم أنت مستهتر .
صفق باب الغرفة وخرج وهي تصرخ وتتوعده بدفع الثمن ، وبتلقينه درسا ليحسب لها ألف حساب عندما تكلمه أو تطلب منه شيئا . ركب سيارته وأنطلق مبتعدا عن البيت . نظر لوجهه المتجهم في مرآة السيارة وحاول أن يخفي علامات الانزعاج الجلية على ملامحه وهو ينظر للميدالية الزجاجية التي أهدته أيها كاميليا وطلبت منه أن يعلقها في مرآة سيارته . ظل يفكر بها وبما كتبته اليوم في الجريدة . سطورها القليلة لم تمر عليه وعلى قلبه مرور الكرام . دفع باسطوانة فيروز الذي هجرها منذ مدة في مشغل الأسطوانات وبدأ يستمع ..

" شايف البحر شو كبير .. كبر البحر بحبك
شايف السما شو بعيد .. بعد السما بحبك
كبر البحر وبعد السما بحبك يا حبيبي
يا حبيب بحبك "

جال شارع الكورنيش من أوله إلى آخره عدة مرات دون أن يشعر . كان يمشي مرافقا البحر وبمحاذاته بلا هدف ، ولا يعرف إلى أين يتجه وإلى أين يذهب . مشى وهو يستمع لفيروز وكلما انتهت الأغنية أعادها مرة أخرى . رن هاتفه الجوال ورأى اسم صاحبه فأغلق الهاتف ووضعه في الدرج السيارة . أراد أن يبقى مع فيروز ، وكاميليا التي يفكر بها ماذا تفعل الآن وبم تفكر . ما هو هدفها من الرسائل وإلى متى ستستمر بالكتابة . ألم تكتفي بالجروح التي خلفها حبه فيه .ألم تكتفي بالهزائم التي يعانيها وبالخسائر التي تكبدها من عمره وأعصابه وقلبه . ماذا تريد منه صاحبة الصوت الرقيق ؟
هذا ما كان يفكر به وهو يمشي بلا هدف في الطريق البحري . أوقف سيارته بمحاذاة كورنيش القطيف وترجل منها يفكر بما قالته ريم قبل خروجه وتهديدها بترك المنزل للمرة الثانية في فترة وجيزة . تمشي ببطء وهو يتأمل العشب الأخضر والأولاد يلعبون بالكره ، وبعضهم يسيرون بدراجاتهم، وبعض النسوة يمشين ، وبعض العائلات تفترش العشب . اقترب من البحر وملأ رئتيه بهواءه الرطب . تمشى قليلا وهو يفكر بالقطيف ، مدينة النفاق والعشق والخيبة . فيها أحب كاميليا وعشقها ، وفيها تركته . خيبت أمله القطيف القاسية ولم تعطه حقا مباحا في كل مكان . عاد بسيارته ليمنع ريم من ترك المنزل ليتلافى حدوث مشكلة كبيرة مع العائلة لو حدث لها شيء وأتهمته . ركب سيارته وأعاد تشغيل فيروز مرة أخرى وعاد بذاكرته وأفكاره لكاميليا . وصل إلى منزله ولم يجد ريم فقد تركت المنزل كما هددته قبل خروجه .

*******

عاد في اليوم التالي من الشركة لمحه واقف أمام باب البيت الحديدي الكبير ودخل بسرعة وراءه . كانت علاقته به سطحيه جدا ولم تتعدى لقاءات قليلة في مناسبات عامة ومتباعدة كيوم زفافه ويوم زفاف عصام ولم يتوقع أن يزوره عادل في بيته يوما ما . حمد ربه بأن ريم غير موجودة لكان أساء الظن بها ، لكن ذلك لم يمنعه في التفكير بعلاقة ريم بزيارته في اليوم التالي لخروجها من المنزل بعد شجارهما الأخير . تساءل عن سبب قدومه وقرر أن يطلب منه عدم الاقتراب من المنزل مرة أخرى مهما كان سبب زيارته الغير مستحبة . أقترب منه عادل بسرعة شديدة وقال له بغضب :
- من تظن نفسك أيها الحقير لتعامل ابنة عمي بهذه الطريقة ؟
التفت إليه وصرخ فيه :
- أخرج من البيت ولا أريد أن أراك تتجول في هذا الحي بالمرة .
أخرج عادل من جيبه سكينا وهم بطعنه ، لكنه تلافى الضربة بحركة رشيقة .
تعاركا أمام نظر الحارس الذي ظل مكانه خائفا . كان عادل مصمم على طعن عماد الذي حاول تلافي الضربة فجاءت مرتين في الهواء ثم رمى بثقل جسمه عليه وأسقطه أرضا . أحس عماد بألم حاد والسكين تغرز في كتفه الأيسر . أمسك بيده مكان الطعنه في كتفه والدم يتدفق بغزارة والحارس الهندي واقف مكانه بخوف وعادل يغرز سكينه مرة أخرى في بطن عماد الذي سقط أرضا من أثر الطعنه والإعياء والنزيف .

********

كانت كاميليا على موعد مع نسرين لتناول العشاء في الخارج عندما اتصلت بها تعتذر عن الخروج معها لتعرض عماد لاعتداء وإصابته بعدة طعنات وهو يرقد في المستشفى . أحست بأن قلبها سيتوقف وهي تسمع الخبر ، لم تكن مستوعبه لما حدث لعمادها . أغلقت السماعة ودموعها تفيض من عينيها المتعبتين . بكت وهي تفكر كيف تراه ، فلابد أن تطمأن عليه بأي وسيلة ، تريد أن تراه بعينيها لترتاح ولا تستطيع الاكتفاء بما تقوله لها نسرين عن حالته . بسرعة ارتدت عباءتها ولفت حجابها الملون على رأسها وأخذت حقيبتها وأمسكت مقبض الباب الخارجي . وسرعان ما استدركت بأن ذهابها غير منطقي بالنسبة لعائلته . جلست على المقعد ووضعت رأسها بين يديها وراحت تنشج بالبكاء . كانت خائفة وتدعو الله أن ينجيه ، لا تريده أن يكون لها ولا تريده أن يحبها أو يتذكرها ولا تريد منه شيئا ، تريده أن يتعافى فقط .
ظلت تبكي وفكرها محصور به . لم تأكل ولم تستطيع النوم . أخذت دواءها النفسي علها تهدأ ولو قليلا . وراحت تذرع غرفتها تنتظر اتصالا من نسرين لتطمئنها كما طلبت منها ذلك . كان الإنتظار يزيدها توترا وإنتصاف الليل جعلها أكثر قلقا خافت وهي تفكر بالرسالة الأخيرة التي أرسلتها له في الجريدة ، وذكريات باريس التي أرادت إثارتها في نفسه .لم تتحمل الانتظار أكثر فاتصلت بنسرين ، وسألتها بقلق :
-ما هي أخبار شقيقك الآن ؟
- نقلوه إلى العناية المركزة في الساعة الثامنة وسيبقونه تحت المراقبة لمدة عشر ساعات .. لم يسمحوا لنا برؤيته فعدنا إلى البيت وسنذهب لزيارته غدا صباحا .
تنهدت وسألت صديقاتها :
- هل ستذهبين إلى المستشفى ؟
- لن أذهب فهذا الأسبوع التدريبي الأخير لي ولدي أيام اضطرارية مدخرة .
تمنت لعماد الشفاء فقالت لها نسرين وهي تبكي :
- أمي منهارة لقد انتحبت بحسرة وهم ينقلونه أمامنا إلى غرفة العناية المركزة .
- ومن طعنه بالسكين ؟
- طعنه الكلب عادل ابن عم المتعجرفة .. تركت المنزل بالأمس وفزع لها ابن عمها .. تخيلي لم تأت للمستشفى لرؤيته .
أنهت حديثها مع نسرين وذهب إلى المطبخ لتجلب لها مشروبا باردا وذهبت لغرفتها . كانت تشرب وهي تنتظر بزوغ الشمس لتنتهي الساعات العشر وتطمئن على عمادها . دعت الله أن يمن عليه بالشفاء ، وقضت ليلتها بالتفكير والاتصال بالمستشفى والممرضات يرفضن إخبارها بحالته . أتصل بها ناصر عدة مرات ولم تجبه . بقيت تبكي وحدها في البيت تنتظر شروق الشمس . لم تذهب للمستشفى هي أيضا ، ظلت تنتظر الوقت الملائم لتذهب وترى عمادها وتطمأن عليه .

********

انتظرت انتصاف النهار لتتمكن من الذهاب للمستشفى لرؤية عماد بعد أن أخبرتها نسرين بأنهم تركوه وسيعودون لزيارته عصرا . كانت خائفة وسيارتها تتوقف في مواقف السيارات الخاصة بالمستشفى . ترجلت بسرعة وهي تلف اللثام على وجهها لتخفي القسم السفلي منه والنظارة الشمسية تخفي عينيها ، ويدها تمسك بباقة ورود فاخرة اختارتها من ورود الكاميليا البيضاء . توجهت مباشرة لقسم الجراحة فقد أخبرتها نسرين بأن حالته مستقرة وتم أخرجه من العناية المركزة . لم تكن تفكر بردة فعله عندما يراها ولا بما ستقوله له ، ولماذا تأتي لزيارته في المستشفى بعد كل الذي حدث .
لم تبال بشيء وهي تتذكر ناصر الغائب في عمله والذي لم يكف عن الاتصال بها منذ البارحة ولم تجبه . جل اهتمامها منصب على عماد وشفاءه فربما يعرف بأنها تحبه بإخلاص وتريد الاطمئنان عليه فقط . ربما يؤمن بأنها كانت ضحية لوالدها وتزوجت بأبن عمها مرغمة ، وكانت مستعدة لبذل الكثير في سبيل تلافي هذا الزواج وهو تخلى عنها عندما طلبت مساعدته . عله يصدق ذلك وينسى فكرة خداعه فمازال يهمها أن يعرف بأنها كانت صادقة معه .
اقتربت من محطة التمريض وسألت إحدى الممرضات عن غرفته فدلتها عليها وطلبت منها عدم إطالة الزيارة فالطبيب يوصي بذلك .
طرقت الباب بوجل وقلبها ينبض بقوة والدموع معلقة برموشها . قوت قلبها المرتبك ودخلت غرفته الخاصة ووجدته على السرير في حالة إعياء تام والمحاليل السائلة مغروزة في وريده وجهاز قياس الضغط متصل بذراعه ، وأنبوبة رفيعة تخرج من بطنه وتتصل بكيس بلاستيكي به سائل اصفر مختلط بالقليل من الدم . بدا شاحبا وهو مغمض العينين ، وكتفه الأيسر مغطى بضمادات وجبينه يضيء بالعرق وجسده مغطى بغطاء خفيف . كان نائما وساكنا وعندما كلمته برفق لم يسمعها . وضعت الورود على الطاولة وجلست على الكرسي القريب منه وقالت له بهمس والدموع مختبئة بين رمشيها :
- دودي .. حمد الله على سلامتك يا بعد عمري .
كان يئن بصوت منخفض ، فقالت :
- أرجوك .. أفتح عينيك أجبني .
وعندما لم يستفيق سكتت تتأمل وجهه الشاحب . أحست بشوق عارم له أشهر طويلة مرت على لقاءها الأخير به كم بدا متغيرا ، بدا نحيلا والشعرات البيضاء ظهرت أكثر في جانبي رأسه . لم تتمكن من حبس دموعها ، وهي تكلمه بهمس لا يكاد يسمع :
- تعافى وكن قويا كما عرفتك .. أنظر إلى بعينيك السوداويين فأنا لم أرى أجمل منهما في حياتي .. أنهض فأنا أحتاجك في هذه الحياة حتى لو لم تكن بجانبي يكفيني أن تكون موجودا ومتعافيا يا حب حياتي الكبير .. تعافى يا من وعدتني بالحب والسعادة فأنا مازلت أنتظر وعدك وما زلت أحبك رغم خذلانك لي .
والتفتت لصوت جهاز قياس الضغط الالكتروني وهو يقيس ضغط دمه من جديد فسكتت وهي تلملم دموعها . بلعت ريقها والممرضة تدخل لتقيس حرارته . سألتها بقلق عن حالته ، فطمأنتها :
- حالته مستقرة .. لكنه يعاني من ارتفاع في درجة الحرارة بين وقت وآخر .
مسحت دموعها وسألتها :
- ولماذا لا يرد علي ولا يفتح عينيه ؟
طمأنتها بأنه مازال يشعر بإعياء ناتج عن إصابته ومن النزيف والعملية ، كما أنها أعطته حقنة مسكنة قبل ساعة لذا هو نائم الآن . مدت كاميليا يدها نحو عماد وأمسكت بيده الدافئة من ارتفاع حرارته وهمست له :
- كن قويا وتعافى من أجلي .
نهضت من الكرسي وأزاحت اللثام عن وجهها . اقتربت منه وطبعت على جبينه قبلة متجاهلة كل الأفكار القديمة وما قاله رجل الدين عن الحب المحرم . أعادت اللثام على وجهها وخرجت بدموعها التي أخفتها بالنظارة . أمسكت بمقبض الباب واستدارت تلقي عليه نظرة أخيرة قبل أن تخرج وشعرت برغبة للاقتراب منه مجددا واحتضانه لكنها منعت نفسها من ذلك خشية أن يأتي أحد من أفراد عائلته وهي لا تود أن يراها أحد هنا .

*********


فتح عماد عينيه مساءا وجد والديه وأختيه وفيصل وأمل وعصام حوله جالسون في غرفته الخاصة يحيطونه بباقات الورود والشوكلاتة الفاخرة . قالت له نسرين ممازحة وعينيها على ورود الكاميليا بجواره :
- من أحضر لك الورود البيضاء .
نظر للورود وتذكر كاميليا فقد كان يهديها ورود الكاميليا البيضاء دائما . هز رأسه وقال بأنه لا يعرف من أحضرها . فنهضت نسرين وأحضرت له البطاقة المرفقة وقرأت بصوت عالي :
- مكتوب في البطاقة .. غلبتني دموعي عندما عرفت بما حصل .. ومن كل قلبي أتمنى لك الشفاء العاجل وموفور الصحة .. وتوقيع الرسل .. مع التحية والبقية تأتي .
ضحكت ندى وقالت :
- من هذا الزائر الغريب .. لم لا يذكر أسمه ؟
أنقبض قلبه وهو يسمع ما قالته أخته ، وطلب من نسرين أن تعطيه البطاقة . أمسك بها وقرأها بعينيه وذهنه يصوب أفكاره نحو كاميليا فهذا توقيعها في الجريدة وعبارة البقية تأتي تختم بها همساتها وتتوعده بها منذ زمن . تساءل في سره متى جاءت وكيف لم يشعر بوجودها ، ربما أرسلت الورود فقط ولم تأتي بنفسها . جلس مع عائلته وفكره مشغول بكاميليا وبالورود التي أرسلتها ، خرج من أفكاره وأمه تسأله :
- ألم تأتي ريم لزيارتك ؟
- ولماذا تأتي ؟.. هي مشغولة بسفرها .
- أنت زوجها ولا تأت لزيارتك .. ربما هي من جلبت الورود .
كان متأكد بأن الورود من كاميليا ولكنه سكت ، وأمه تتابع :
- حتى وإن كنتما على خلاف يجب أن تأتي لتراك وتطمئن عليك .. هذا تقصير منها .
سكت عماد وهو يشعر بألم انتابه مكان العملية ، فقال عصام لزوجة خاله :
- هي متأثرة بما حصل بينها وبين عماد .. لقد طردها من المنزل .
ظل عماد ساكتا وغير مبال بما قالته ريم عنه ، فقالت أمه مخاطبة عصام بحدة :
- وابن عمك النذل .. لماذا يؤذي ابني ؟
- عادل تصرف من نفسه فقد كان في منزلنا عندما جاءت ريم وهي تبكي .. أنفعل وصار يهدد ويتوعد أمامنا .. ظننا كلامه ناتج عن غضبه فقط لكنه فعلها .
- لعنه الله لن نتنازل عن حبسه والشرطة تبحث عنه الآن وسيجدونه قريبا .. سينال جزاءه كالذي أحرق قلبي قبل سنوات .
قالت كلمتها والشرر يتطاير من عينيها الدامعتين ، فاقتربت منها ندى وعانقتها وقالت لها :
- كوني مطمئنة وهادئة ستسير الأمور على ما يرام .
لم يجد عصام ما يقوله ، فكلهم أقارب والوضع أصبح شائكا بين أخته وزوجها وابن عمه . بعد قليل استأذن الجميع ونهض مع أمل وخرجا من المستشفى داعين لعماد بالشفاء العاجل . بقي والديه وأختيه معه لبعض الوقت وبعد آذان المغرب خرجوا وتركوه لأفكاره بكاميليا وبالورود التي أحظرتها له ، لا بد أن تكون هي . بعد دقائق طرق الباب وجاءت عمته وزوجها ومعهما ريم التي جلست في مقعد بعيد عنه وقالت له بحدة :
- أنا أفضل منك .. أتيت لرؤيتك بعد الذي فعلته بي .
طلبت منها أمها أن تكون أكثر لطفا مع زوجها وتنسى ما حصل ، ووجهت كلامها لعماد وقالت له :
- ما الذي ستفعله مع عادل الآن ؟
- سأبحث الأمر مع والدي .
زمت ريم شفتيها ثم سألته :
- ومتى ستخرج من المستشفى ؟
- أشعر بتحسن بعد أن انخفضت الحرارة وأود الخروج في أقرب وقت .
- يجب أن يطمئنوا من عدم وجود أي التهاب ناتج عن الإصابة .. إضافة لعدم تكرار النزيف والتئام جروح الطحال وشق العملية .. لذا عليك أن تبقى حتى تتعافى كليا .
سكتت للحظة ثم أردفت :
- أتمنى أن تخرج قبل سفري .. وإذا سافرت فسأتصل وأطمأن عليك .
شكر اهتمامها البالغ به بتهكم ضايقها ، فلم يكن مهتما ببقائها أو سفرها فهو يعرف بأنه لا يعني لها شيئا وهي لاتهمه ولا روابط تربطهما كزوجين . ربما سفرها وابتعادها يجعله أكثر هدوءا وراحة . ربما ينام براحة دون أن يفكر فيها وفي مشاكلها ولا بكاميليا وبورودها ورسائلها .
 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه
الفصل 33

أستيقظ عماد من نومه على صوت ريم في السابعة مساء . غسل وجهه وأخذ الجريدة بصمت وهم بالخروج فاستوقفته تطلب منه مرافقتها إلى السوق لشراء ملابس قبل السفر . هز رأسه موافقا وذهب للجلوس في الركن الفرنسي ، يطالع جهاز التلفزيون ليسمع الأخبار بصوت منخفض وهو يقرأ . أحس وكأن يدا تعصر قلبه عندما رأى زاوية همسات من قلبي موجودة . ماذا كتبت له كاميليا هذه المرة وأي رسالة توجهها إليه . همسات عتاب أم تعبير بالخيبة ، أم تذكير بالماضي أم ماذا ..

" تسألني باريس عنك
تسألني الجسور والعطور
تسألني العشاق والزهور
تسأل عنك مياه السين الهادئة
والأمسيات الحالمة
باريس تذكر حبنا
وتذكر لمسة اليد الحنونة
وتلك القبلة اللذيذة المجنونة
وورود باريس وحدائقها
ومياهها ومقاهيها وحلوياتها
ولياليها وأحلامها ونسماتها ..
" ألور " يسأل عنك
و" الياقوت الأحمر " في يدي
والكحل الأسود في عيني
وحبة الخال في زاوية فمي ..
يسألون عنك ..



كاميليا الناصر
الرسالة الرابعة .. والبقية تأتي .
..............................


أعاد قراءة ما كتبته كاميليا مرة أخرى .. وتساءل لماذا تذكره بباريس وبكل ما يحبه فيها ؟ . لماذا هي مصره على تذكيره بالحب الذي جعله يتبعها إلى باريس عندما سافرت ، وتذكره بهداياه وقسوته عليها . ما الذي تريده من هذه الرسائل الخفية ؟. هذه الرسالة الرابعة وهي لم تتوقف ومازالت تعده بالمزيد . كم ستستمر بإرسال الرسائل والعتاب والهمسات المبطنة . وهو يفكر بها وبهمساتها وذكريات باريس تطوف بخياله . تنهد عندما لمح ريم تقترب منه ، جلست بجانبه وقالت :
- أريد أن أشتري معطفا سميكا وبعض الملابس الدافئة فالجو في لندن بارد جدا .
ظل ساكتا غير مهتم بما تقوله وعطر الماضي يثير فيه المزيد من الذكريات ، فأكملت ريم حديثها :
- أتصدق أن أعلى درجة تصل إليها الحرارة في لندن على مدار السنة هي ثلاث وعشرون درجة مئوية .
تأفف وطلب منها أن تلغي سفرها فهو لا يحبذه ، فقالت له بانفعال :
- تقول هذا بعد أن حصلت على التأشير وحجزت تذكره السفر .. وحصلت على الموافقة من وزارة الصحة وسأسافر بعد أسبوع .
زم شفتيه وقال بنبرة حادة :
- تستطيعين إلغاء السفر لو أردت .
أجابته بأنها لن تفعل ذلك فهي ليست مضطرة لتحمل تردده وتقلب آرائه . شعرت بالغثيان وهي تطلب منه أن يستخرج لها تصريحا بالسفر ، فهذا أمر مذل . هي امرأة راشد لا تستطيع أن تسافر بدون أن يأذن لها ولي أمرها ، كم تكره هذه الكلمة البائسة فعلى زوجها أن يعطيها موافقته الرسمية وإلا لن تسافر .
- سأذهب غدا للجوازات واستخرج التصريح .
قال جملته وأخذ الجريدة وتوجه لغرفته فلحقت به وسألته :
- متى سنذهب إلى السوق ؟
طلب منها أن تذهب لوحدها فهو سيخرج للقاء أصحابه وأمامها خلع بيجامته وارتدى ملابس الخروج ووقف أمام المرآة يمشط شعره . وقفت أمامه عبر المرآة وصرخت به :
- لماذا تعاديني ؟
استدار لها وطلب أن تتكلم بهدوء فأجابته بصوت مرتفع :
- أنت وعدتني .
أطال النظر إليها وطلب منها الكف عن الصراخ والذهاب مع السائق .
- أي أصدقاء تتحدث عنهم .. ليس لديك غير ماجد وفيصل .
سكتت للحظة ثم قالت بسخرية :
- لو رشحت نفسك في مجلس البلدي .. سيصوت لك ماجد فقط من خارج العائلة .
لم يجبها فضحكت باستهزاء وقالت :
- تخيل ستكون أقوى الخاسرين !
استدار نحوها وقال بازدراء :
- أترفع عن الإجابة على غبية مثلك .. وهذه الانتخابات لا تعنيني ولن أعطي صوتي لأحد .
بروده زاد غضبها فصرخت به :
- لن أدعك تخرج معهم وستذهب معي إلى المجمع التجاري رغما عنك .
سكت وأخذ مفاتيحه ومحفظته وهاتفه وهم بالخروج من الغرفة لكن جملتها الأخيرة استوقفته عندما قالت له بتهديد :
- إذا خرجت فلن تجدني عندما تعود .
أغمض عينيه ولأول مرة يتمنى أن يسكتها بأي وسيلة حتى وإن اضطر لضرب رأسها بالحائط ، لكنه كتم غيظه وقال لها :
- أذهبي إلى جهنم .. والحمد الله لست حاملا هذه المرة لأكون سبب ولادتك المبكرة .
صعقها رده فقالت :
- ألا تهتم بي لهذه الدرجة .. كم أنت مستهتر .
صفق باب الغرفة وخرج وهي تصرخ وتتوعده بدفع الثمن ، وبتلقينه درسا ليحسب لها ألف حساب عندما تكلمه أو تطلب منه شيئا . ركب سيارته وأنطلق مبتعدا عن البيت . نظر لوجهه المتجهم في مرآة السيارة وحاول أن يخفي علامات الانزعاج الجلية على ملامحه وهو ينظر للميدالية الزجاجية التي أهدته أيها كاميليا وطلبت منه أن يعلقها في مرآة سيارته . ظل يفكر بها وبما كتبته اليوم في الجريدة . سطورها القليلة لم تمر عليه وعلى قلبه مرور الكرام . دفع باسطوانة فيروز الذي هجرها منذ مدة في مشغل الأسطوانات وبدأ يستمع ..

" شايف البحر شو كبير .. كبر البحر بحبك
شايف السما شو بعيد .. بعد السما بحبك
كبر البحر وبعد السما بحبك يا حبيبي
يا حبيب بحبك "

جال شارع الكورنيش من أوله إلى آخره عدة مرات دون أن يشعر . كان يمشي مرافقا البحر وبمحاذاته بلا هدف ، ولا يعرف إلى أين يتجه وإلى أين يذهب . مشى وهو يستمع لفيروز وكلما انتهت الأغنية أعادها مرة أخرى . رن هاتفه الجوال ورأى اسم صاحبه فأغلق الهاتف ووضعه في الدرج السيارة . أراد أن يبقى مع فيروز ، وكاميليا التي يفكر بها ماذا تفعل الآن وبم تفكر . ما هو هدفها من الرسائل وإلى متى ستستمر بالكتابة . ألم تكتفي بالجروح التي خلفها حبه فيه .ألم تكتفي بالهزائم التي يعانيها وبالخسائر التي تكبدها من عمره وأعصابه وقلبه . ماذا تريد منه صاحبة الصوت الرقيق ؟
هذا ما كان يفكر به وهو يمشي بلا هدف في الطريق البحري . أوقف سيارته بمحاذاة كورنيش القطيف وترجل منها يفكر بما قالته ريم قبل خروجه وتهديدها بترك المنزل للمرة الثانية في فترة وجيزة . تمشي ببطء وهو يتأمل العشب الأخضر والأولاد يلعبون بالكره ، وبعضهم يسيرون بدراجاتهم، وبعض النسوة يمشين ، وبعض العائلات تفترش العشب . اقترب من البحر وملأ رئتيه بهواءه الرطب . تمشى قليلا وهو يفكر بالقطيف ، مدينة النفاق والعشق والخيبة . فيها أحب كاميليا وعشقها ، وفيها تركته . خيبت أمله القطيف القاسية ولم تعطه حقا مباحا في كل مكان . عاد بسيارته ليمنع ريم من ترك المنزل ليتلافى حدوث مشكلة كبيرة مع العائلة لو حدث لها شيء وأتهمته . ركب سيارته وأعاد تشغيل فيروز مرة أخرى وعاد بذاكرته وأفكاره لكاميليا . وصل إلى منزله ولم يجد ريم فقد تركت المنزل كما هددته قبل خروجه .

*******

عاد في اليوم التالي من الشركة لمحه واقف أمام باب البيت الحديدي الكبير ودخل بسرعة وراءه . كانت علاقته به سطحيه جدا ولم تتعدى لقاءات قليلة في مناسبات عامة ومتباعدة كيوم زفافه ويوم زفاف عصام ولم يتوقع أن يزوره عادل في بيته يوما ما . حمد ربه بأن ريم غير موجودة لكان أساء الظن بها ، لكن ذلك لم يمنعه في التفكير بعلاقة ريم بزيارته في اليوم التالي لخروجها من المنزل بعد شجارهما الأخير . تساءل عن سبب قدومه وقرر أن يطلب منه عدم الاقتراب من المنزل مرة أخرى مهما كان سبب زيارته الغير مستحبة . أقترب منه عادل بسرعة شديدة وقال له بغضب :
- من تظن نفسك أيها الحقير لتعامل ابنة عمي بهذه الطريقة ؟
التفت إليه وصرخ فيه :
- أخرج من البيت ولا أريد أن أراك تتجول في هذا الحي بالمرة .
أخرج عادل من جيبه سكينا وهم بطعنه ، لكنه تلافى الضربة بحركة رشيقة .
تعاركا أمام نظر الحارس الذي ظل مكانه خائفا . كان عادل مصمم على طعن عماد الذي حاول تلافي الضربة فجاءت مرتين في الهواء ثم رمى بثقل جسمه عليه وأسقطه أرضا . أحس عماد بألم حاد والسكين تغرز في كتفه الأيسر . أمسك بيده مكان الطعنه في كتفه والدم يتدفق بغزارة والحارس الهندي واقف مكانه بخوف وعادل يغرز سكينه مرة أخرى في بطن عماد الذي سقط أرضا من أثر الطعنه والإعياء والنزيف .

********

كانت كاميليا على موعد مع نسرين لتناول العشاء في الخارج عندما اتصلت بها تعتذر عن الخروج معها لتعرض عماد لاعتداء وإصابته بعدة طعنات وهو يرقد في المستشفى . أحست بأن قلبها سيتوقف وهي تسمع الخبر ، لم تكن مستوعبه لما حدث لعمادها . أغلقت السماعة ودموعها تفيض من عينيها المتعبتين . بكت وهي تفكر كيف تراه ، فلابد أن تطمأن عليه بأي وسيلة ، تريد أن تراه بعينيها لترتاح ولا تستطيع الاكتفاء بما تقوله لها نسرين عن حالته . بسرعة ارتدت عباءتها ولفت حجابها الملون على رأسها وأخذت حقيبتها وأمسكت مقبض الباب الخارجي . وسرعان ما استدركت بأن ذهابها غير منطقي بالنسبة لعائلته . جلست على المقعد ووضعت رأسها بين يديها وراحت تنشج بالبكاء . كانت خائفة وتدعو الله أن ينجيه ، لا تريده أن يكون لها ولا تريده أن يحبها أو يتذكرها ولا تريد منه شيئا ، تريده أن يتعافى فقط .
ظلت تبكي وفكرها محصور به . لم تأكل ولم تستطيع النوم . أخذت دواءها النفسي علها تهدأ ولو قليلا . وراحت تذرع غرفتها تنتظر اتصالا من نسرين لتطمئنها كما طلبت منها ذلك . كان الإنتظار يزيدها توترا وإنتصاف الليل جعلها أكثر قلقا خافت وهي تفكر بالرسالة الأخيرة التي أرسلتها له في الجريدة ، وذكريات باريس التي أرادت إثارتها في نفسه .لم تتحمل الانتظار أكثر فاتصلت بنسرين ، وسألتها بقلق :
-ما هي أخبار شقيقك الآن ؟
- نقلوه إلى العناية المركزة في الساعة الثامنة وسيبقونه تحت المراقبة لمدة عشر ساعات .. لم يسمحوا لنا برؤيته فعدنا إلى البيت وسنذهب لزيارته غدا صباحا .
تنهدت وسألت صديقاتها :
- هل ستذهبين إلى المستشفى ؟
- لن أذهب فهذا الأسبوع التدريبي الأخير لي ولدي أيام اضطرارية مدخرة .
تمنت لعماد الشفاء فقالت لها نسرين وهي تبكي :
- أمي منهارة لقد انتحبت بحسرة وهم ينقلونه أمامنا إلى غرفة العناية المركزة .
- ومن طعنه بالسكين ؟
- طعنه الكلب عادل ابن عم المتعجرفة .. تركت المنزل بالأمس وفزع لها ابن عمها .. تخيلي لم تأت للمستشفى لرؤيته .
أنهت حديثها مع نسرين وذهب إلى المطبخ لتجلب لها مشروبا باردا وذهبت لغرفتها . كانت تشرب وهي تنتظر بزوغ الشمس لتنتهي الساعات العشر وتطمئن على عمادها . دعت الله أن يمن عليه بالشفاء ، وقضت ليلتها بالتفكير والاتصال بالمستشفى والممرضات يرفضن إخبارها بحالته . أتصل بها ناصر عدة مرات ولم تجبه . بقيت تبكي وحدها في البيت تنتظر شروق الشمس . لم تذهب للمستشفى هي أيضا ، ظلت تنتظر الوقت الملائم لتذهب وترى عمادها وتطمأن عليه .

********

انتظرت انتصاف النهار لتتمكن من الذهاب للمستشفى لرؤية عماد بعد أن أخبرتها نسرين بأنهم تركوه وسيعودون لزيارته عصرا . كانت خائفة وسيارتها تتوقف في مواقف السيارات الخاصة بالمستشفى . ترجلت بسرعة وهي تلف اللثام على وجهها لتخفي القسم السفلي منه والنظارة الشمسية تخفي عينيها ، ويدها تمسك بباقة ورود فاخرة اختارتها من ورود الكاميليا البيضاء . توجهت مباشرة لقسم الجراحة فقد أخبرتها نسرين بأن حالته مستقرة وتم أخرجه من العناية المركزة . لم تكن تفكر بردة فعله عندما يراها ولا بما ستقوله له ، ولماذا تأتي لزيارته في المستشفى بعد كل الذي حدث .
لم تبال بشيء وهي تتذكر ناصر الغائب في عمله والذي لم يكف عن الاتصال بها منذ البارحة ولم تجبه . جل اهتمامها منصب على عماد وشفاءه فربما يعرف بأنها تحبه بإخلاص وتريد الاطمئنان عليه فقط . ربما يؤمن بأنها كانت ضحية لوالدها وتزوجت بأبن عمها مرغمة ، وكانت مستعدة لبذل الكثير في سبيل تلافي هذا الزواج وهو تخلى عنها عندما طلبت مساعدته . عله يصدق ذلك وينسى فكرة خداعه فمازال يهمها أن يعرف بأنها كانت صادقة معه .
اقتربت من محطة التمريض وسألت إحدى الممرضات عن غرفته فدلتها عليها وطلبت منها عدم إطالة الزيارة فالطبيب يوصي بذلك .
طرقت الباب بوجل وقلبها ينبض بقوة والدموع معلقة برموشها . قوت قلبها المرتبك ودخلت غرفته الخاصة ووجدته على السرير في حالة إعياء تام والمحاليل السائلة مغروزة في وريده وجهاز قياس الضغط متصل بذراعه ، وأنبوبة رفيعة تخرج من بطنه وتتصل بكيس بلاستيكي به سائل اصفر مختلط بالقليل من الدم . بدا شاحبا وهو مغمض العينين ، وكتفه الأيسر مغطى بضمادات وجبينه يضيء بالعرق وجسده مغطى بغطاء خفيف . كان نائما وساكنا وعندما كلمته برفق لم يسمعها . وضعت الورود على الطاولة وجلست على الكرسي القريب منه وقالت له بهمس والدموع مختبئة بين رمشيها :
- دودي .. حمد الله على سلامتك يا بعد عمري .
كان يئن بصوت منخفض ، فقالت :
- أرجوك .. أفتح عينيك أجبني .
وعندما لم يستفيق سكتت تتأمل وجهه الشاحب . أحست بشوق عارم له أشهر طويلة مرت على لقاءها الأخير به كم بدا متغيرا ، بدا نحيلا والشعرات البيضاء ظهرت أكثر في جانبي رأسه . لم تتمكن من حبس دموعها ، وهي تكلمه بهمس لا يكاد يسمع :
- تعافى وكن قويا كما عرفتك .. أنظر إلى بعينيك السوداويين فأنا لم أرى أجمل منهما في حياتي .. أنهض فأنا أحتاجك في هذه الحياة حتى لو لم تكن بجانبي يكفيني أن تكون موجودا ومتعافيا يا حب حياتي الكبير .. تعافى يا من وعدتني بالحب والسعادة فأنا مازلت أنتظر وعدك وما زلت أحبك رغم خذلانك لي .
والتفتت لصوت جهاز قياس الضغط الالكتروني وهو يقيس ضغط دمه من جديد فسكتت وهي تلملم دموعها . بلعت ريقها والممرضة تدخل لتقيس حرارته . سألتها بقلق عن حالته ، فطمأنتها :
- حالته مستقرة .. لكنه يعاني من ارتفاع في درجة الحرارة بين وقت وآخر .
مسحت دموعها وسألتها :
- ولماذا لا يرد علي ولا يفتح عينيه ؟
طمأنتها بأنه مازال يشعر بإعياء ناتج عن إصابته ومن النزيف والعملية ، كما أنها أعطته حقنة مسكنة قبل ساعة لذا هو نائم الآن . مدت كاميليا يدها نحو عماد وأمسكت بيده الدافئة من ارتفاع حرارته وهمست له :
- كن قويا وتعافى من أجلي .
نهضت من الكرسي وأزاحت اللثام عن وجهها . اقتربت منه وطبعت على جبينه قبلة متجاهلة كل الأفكار القديمة وما قاله رجل الدين عن الحب المحرم . أعادت اللثام على وجهها وخرجت بدموعها التي أخفتها بالنظارة . أمسكت بمقبض الباب واستدارت تلقي عليه نظرة أخيرة قبل أن تخرج وشعرت برغبة للاقتراب منه مجددا واحتضانه لكنها منعت نفسها من ذلك خشية أن يأتي أحد من أفراد عائلته وهي لا تود أن يراها أحد هنا .

*********


فتح عماد عينيه مساءا وجد والديه وأختيه وفيصل وأمل وعصام حوله جالسون في غرفته الخاصة يحيطونه بباقات الورود والشوكلاتة الفاخرة . قالت له نسرين ممازحة وعينيها على ورود الكاميليا بجواره :
- من أحضر لك الورود البيضاء .
نظر للورود وتذكر كاميليا فقد كان يهديها ورود الكاميليا البيضاء دائما . هز رأسه وقال بأنه لا يعرف من أحضرها . فنهضت نسرين وأحضرت له البطاقة المرفقة وقرأت بصوت عالي :
- مكتوب في البطاقة .. غلبتني دموعي عندما عرفت بما حصل .. ومن كل قلبي أتمنى لك الشفاء العاجل وموفور الصحة .. وتوقيع الرسل .. مع التحية والبقية تأتي .
ضحكت ندى وقالت :
- من هذا الزائر الغريب .. لم لا يذكر أسمه ؟
أنقبض قلبه وهو يسمع ما قالته أخته ، وطلب من نسرين أن تعطيه البطاقة . أمسك بها وقرأها بعينيه وذهنه يصوب أفكاره نحو كاميليا فهذا توقيعها في الجريدة وعبارة البقية تأتي تختم بها همساتها وتتوعده بها منذ زمن . تساءل في سره متى جاءت وكيف لم يشعر بوجودها ، ربما أرسلت الورود فقط ولم تأتي بنفسها . جلس مع عائلته وفكره مشغول بكاميليا وبالورود التي أرسلتها ، خرج من أفكاره وأمه تسأله :
- ألم تأتي ريم لزيارتك ؟
- ولماذا تأتي ؟.. هي مشغولة بسفرها .
- أنت زوجها ولا تأت لزيارتك .. ربما هي من جلبت الورود .
كان متأكد بأن الورود من كاميليا ولكنه سكت ، وأمه تتابع :
- حتى وإن كنتما على خلاف يجب أن تأتي لتراك وتطمئن عليك .. هذا تقصير منها .
سكت عماد وهو يشعر بألم انتابه مكان العملية ، فقال عصام لزوجة خاله :
- هي متأثرة بما حصل بينها وبين عماد .. لقد طردها من المنزل .
ظل عماد ساكتا وغير مبال بما قالته ريم عنه ، فقالت أمه مخاطبة عصام بحدة :
- وابن عمك النذل .. لماذا يؤذي ابني ؟
- عادل تصرف من نفسه فقد كان في منزلنا عندما جاءت ريم وهي تبكي .. أنفعل وصار يهدد ويتوعد أمامنا .. ظننا كلامه ناتج عن غضبه فقط لكنه فعلها .
- لعنه الله لن نتنازل عن حبسه والشرطة تبحث عنه الآن وسيجدونه قريبا .. سينال جزاءه كالذي أحرق قلبي قبل سنوات .
قالت كلمتها والشرر يتطاير من عينيها الدامعتين ، فاقتربت منها ندى وعانقتها وقالت لها :
- كوني مطمئنة وهادئة ستسير الأمور على ما يرام .
لم يجد عصام ما يقوله ، فكلهم أقارب والوضع أصبح شائكا بين أخته وزوجها وابن عمه . بعد قليل استأذن الجميع ونهض مع أمل وخرجا من المستشفى داعين لعماد بالشفاء العاجل . بقي والديه وأختيه معه لبعض الوقت وبعد آذان المغرب خرجوا وتركوه لأفكاره بكاميليا وبالورود التي أحظرتها له ، لا بد أن تكون هي . بعد دقائق طرق الباب وجاءت عمته وزوجها ومعهما ريم التي جلست في مقعد بعيد عنه وقالت له بحدة :
- أنا أفضل منك .. أتيت لرؤيتك بعد الذي فعلته بي .
طلبت منها أمها أن تكون أكثر لطفا مع زوجها وتنسى ما حصل ، ووجهت كلامها لعماد وقالت له :
- ما الذي ستفعله مع عادل الآن ؟
- سأبحث الأمر مع والدي .
زمت ريم شفتيها ثم سألته :
- ومتى ستخرج من المستشفى ؟
- أشعر بتحسن بعد أن انخفضت الحرارة وأود الخروج في أقرب وقت .
- يجب أن يطمئنوا من عدم وجود أي التهاب ناتج عن الإصابة .. إضافة لعدم تكرار النزيف والتئام جروح الطحال وشق العملية .. لذا عليك أن تبقى حتى تتعافى كليا .
سكتت للحظة ثم أردفت :
- أتمنى أن تخرج قبل سفري .. وإذا سافرت فسأتصل وأطمأن عليك .
شكر اهتمامها البالغ به بتهكم ضايقها ، فلم يكن مهتما ببقائها أو سفرها فهو يعرف بأنه لا يعني لها شيئا وهي لاتهمه ولا روابط تربطهما كزوجين . ربما سفرها وابتعادها يجعله أكثر هدوءا وراحة . ربما ينام براحة دون أن يفكر فيها وفي مشاكلها ولا بكاميليا وبورودها ورسائلها .
 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه
الفصل 34




جففت جسدها بالمنشفة ورطبته بمرطب له رائحة الشاي الأخضر ، وارتدت ملابس نومها ونظرت إلى الشارع من النافذة . مازلت الدنيا مظلمة ولم تشرق الشمس بعد . دست جسدها تحت لحافها المثقل بالدموع والأفكار ومسحت دموعها وهي تبتلع حبة الدواء التي تعودت عليها وصوت الدكتورة ليلى يرن في أذنها ( تحتاجين لثورة .. ثوري على نفسك وأفكارك ومشاكلك .. انتصري عليها ولا تدعيها تهزمكِ ) . مسحت دموعها وهي تسمع صوت ناصر عائدا من الخارج كعادته في نهاية الأسبوع . جلس على الأريكة المقابلة للسرير وقال لها :
- لم تنامي بعد ؟ .. بعدك صغيرة على السهر .. ليش سهرانة ..
ضحك بقوة وهو يصفق بيديه ، فرفعت رأسها وسألته :
- ما بك تترنح .. هل أنت سكران ؟
أجابها بصوت مرتفع وقال :
- كلا ولكني تناولت حبة سحرية أذابتها في شراب سحري جعلتني أطير .. أنا أحلق بين الغيوم .
نهض من الأريكة وهو يضحك ويردد بأنه يحلق بين الغيوم وأقترب من السرير وألقى بنفسه وخلال دقيقة غط في نوم عميق .. شعرت بالقرف منه ومما قاله فنهضت من سريرها وأخذت الوسادة لتنام في غرفة أخرى وحدها . شغلت جهاز الكمبيوتر وهي تفكر بعماد الراقد في المستشفى . فكرت بإرسال رسالة على بريده لكنها تراجعت . تنهدت وهي تتذكره ينام بإعياء على السرير . كيف تجرأت وزارته في المستشفى وطبعت على جبينه قبلة متجاهلة كونها امرأة متزوجة ، تعيش في القطيف وليس في باريس كما كانت تقول له يبدو بأنها نسيت ذلك .

********

خرج عماد من المستشفى بعد أن تعافى ونصحه الأطباء بالراحة في البيت لمدة أسبوعين . ذهب بصحبة والده وفيصل إلى مركز الشرطة ليخرجوا عادل من السجن ، فلقد سلم نفسه بناء على نصيحة عمه ، لكن أم عماد أصرت على حبسه وعدم التنازل غير آبهة بأحد ، فبقي لعدة أيام وبعدها وقع تعهدا بعدم الاقتراب من عماد وزوجته .

عاد إلى منزله وهو يحمل الورود التي أحضرتها كاميليا ولا يعرف لماذا يحملها معه ويستلذ بالنظر إليها بعد أن ذبلت . وضعها على الطاولة الصغيرة في الركن الفرنسي وجلس يشرب العصير مع ويم التي تستعد للسفر في اليوم ذاته إذا ستقلع طائرتها ليلا . كانا صامتان كعادتهما ولا يجمعهما الكلام ولا المشاعر ولا الأفكار . ألمه سفر زوجته في هذا اليوم بالذات بدلا من أن تكون بجانبه لترعاه ، فلطالما حلم بزوجة حنونة تسبغ عليه عاطفتها ورعايتها .
مساءا ودعته ريم متوجهة إلى مطار الدمام وهو يتخيل لو أن فيصل مثلا من أصابه الحادث فندى ستبقى بجانبه بكل تأكيد ولا يمكن أن تتركه وتسافر في يوم خروجه من المستشفى . رفض الذهاب لمنزل والديه فبقيت نسرين معه في البيت وتحدثا قليلا ثم نام وهو يفكر بأنه وحيد حتى بعد زواجه وليس لديه من يحدثه ويشكو له . فكر بكاميليا التي أحضرت له الورود في المستشفى وتأكد أنها أتت بنفسها كما أخبرته الممرضة بأن امرأة متلثمة الوجه جاءت لرؤيته عندما كان مصابا بارتفاع في حرارة جسمه في اليوم التالي لإصابته .

**********

" بيقولوا الحب بيقتل الوقت
وبيقولوا الوقت بيقتل الحب
يا حبيبي تعى نروح
قبل الوقت وقبل الحب .."


توجه إلى مكتبه وهو يمسك بحقيبته ويخفي عينيه بالنظارة الشمسية والجميع يرحب به . جلس على الكرسي وطلب من موظف الكافتيريا أن يحضر له فنجان من القهوة ليبدأ بها يومه ، وقبل أن تصل القهوة وصل فيصل . تحدثا قليلا ومن ثم باشر كل منهما عمله . كان يشعر بأن هناك شيء ما متغير قي قلبه وحياته ، فهو اليوم رجل متزوج ووحيد في الوقت ذاته . زوجته بعيدة والمرأة التي يحبها بعيدة أيضا . أنهى عمله وغادر مكتبه متوجها إلى المصنع وفي الظهيرة أتصل به ماجد يدعوه إلى تناول الغذاء في مطعم الأكلات البحرية . التقيا هناك أكلا الجمبري المشوي مع الصلصة الخاصة وشربا اللبن المالح . وبعدها قال له ماجد بأنه يود التقدم لطلب يد أخته لأخيه " نزار " . عاد إلى الشركة وقرر أن يخرج مبكرا ويذهب ليرى أمه ويحدثها ، فأخذ جميع الأوراق والملفات ووضعها في حقيبته ليقوم بالجزء المتبقي في منزله .
جلس مع أمه وأخته نسرين وأخبرهما بأمر نزار . كان معجبا به ويعرفه جيدا بحكم صداقته مع ماجد ، فهو شاب خلوق ومتدين . عائلته من الطبقة المتوسطة ولكنه يعيش بطريقة لائقة وأمه تعرف كل هذا وتحب ماجد كثيرا فظن بأن الأمر سيكون سهلا معها ، لكنها سألته :
- كم عمره .. ومن أين متخرج ؟ .. وأين يعمل ؟
أخبرها بأنه متخرج من كليلة الإدارة ، ويعمل محاسبا في إحدى البنوك ، فقالت بنبرة كبرياء :
- لست موافقة .. أريد زوجا لابنتي متخرج من أمريكا مثلا .. ومن عائلة معروفة وثرية .. ولا بأس لو كان طبيبا .
- نزار شاب جيد .
- الله يخليه لأمه .
أراد أن يتكلم فهزت رأسها وكررت بأنها غير موافقة فهي لا تريد أن تزوج ابنتها من حساوي ( أحسائي ) ولن تتنازل عن شاب من القطيف إلا إذا كان طبيبا ، فسأل أخته عن رأيها فسكتت للحظات ثم قالت :
- لا .. لست موافقة .
سألها عن السبب فقالت باستعلاء :
- هو بمواصفاته المتواضعة لا يستحقني .. كما اني لا أريد الزواج الآن .. مازلت صغيرة ولم أرى من الدنيا شيئا بعد .

عاد لمنزله وقضى وقته في مكتبه ، وأنهى عمله وراجع بريده المتراكم من دعوات وفواتير وكشوفات بنكية وعندما انتهى قرأ الجريدة ووضعها جانبا . استلقى على الأريكة وهو يفكر بكاميليا وماذا ستفعل بعد أنهت تدريبها لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها . لابد أنها ستتقدم للعمل في نفس المستشفيات التي ستتقدم لها نسرين وأمل فهن دائما معا . أتصل بأخته ليحدثها بأمر نزار ويتأكد من عدم تدخل أمه . فوجدها مصرة على موقفها ولا تريد الزواج الآن وترى نفسها صغيرة بعد والحياة مازالت تنتظرها ، وليست مضطرة للزواج بأي كان .

*************

عادت كاميليا إلى بيتها في حي الجزيرة . وضعت حقيبتها وعباءتها جانبا وتوجهت للمطبخ . أخذت زجاجة كولا وكأس وتوجهت لغرفتها . جلست على سرير تشرب الكولا المثلجة وهي في حالة لا تعرفها ولكنها ليست غريبة عنها ، تفكر بحياتها وقلقها وبعماد فقد أخبرتها نسرين بأن زوجته سافرت وهو وحيد في بيته . تساءلت ، هل يفكر بها كما تفكر به . هل عرف بأنها زارته في المستشفى وجلبت له ورود الكاميليا البيضاء . هل يقيم اعتبارا لهمساتها التي ترسلها له في الجريدة بين وقت لآخر . تمنت لو تتحكم في عقلها ولا تفكر به فهي امرأة متزوجة وتفكر باستمرار في رجل آخر .

بكت أكثر وهي تفكر بحالها فهي زوجة مهملة وتعيسة وكئيبة . نهضت من سريرها وأخذت علبة الدواء تناولت حبة وهي تشعر بمرارة كلما تذكرت بأنها مريضة نفسية الآن . أغمضت عينيها وهي تتذكر كلام طبيبتها ، قالت لها في آخر زيارة قبل أسبوع ( إذا عرفت ما الذي تريدينه في حياتك ، ستكونين في طريقك الصحيح للبحث عن الحل ) .
مازالت تفكر بعماد وتتابع أخباره التي تصلها عن طريق أخته ، ولا تستطيع سوى التفكير به وتذكر ما كان بينهما . كان بينهما عهود وحب وكلام وأشياء كثيرة كلما اختفت وأصبحت أفكار وذكريات تقلقها فقط . تساءلت عما تريده في حياتها وما الذي تطمح إليه . تذكرت بكائها أمام الدكتورة عندما قالت لها ( لا أريد رجلا غيره .. أريده لي وهذا نذر عليّ إيفاءه )

**********

كان المطر يهطل وهي ترتجف بين يديه وهو يتفحصها بعينه السوداويين . كانت تشعر بالبرد فملابسها مبتلة . أزاح عماد شعرها المبلل إلى الوراء وشفتيه تقبل وجهها ويده تتجول برقة في أنحاء جسدها وهي ترتجف من البرد والخوف . كانت تريد أن تتكلم وتقوله له بأنها تحبه ولكنها لم تستطيع النطق . رمت بنفسها بين ذراعيه وكأنها تريد أن تختبئ من كل الناس ولا أحد يراها أو يعرف مكانها . رفع رأسها بيده وأخبرها بأنه يحبها وينتظرها فأومأت برأسها إليه وهي تمعن النظر لوجهه وهو ممسك برأسها بكلتا يديه . أقترب منها أكثر وبدأ يقبل شفتيها بنهم وأرادت أن تمنعه لم تستطيع وفجأة شعرت بنفسها تهوي من أعلى . صرخت بقوة واستيقظت من نومها فزعة والعرق يبلل جسمها كله . بلعت ريقها وهي تفكر في الحلم الذي رأت نفسها فيه مع عماد تحت المطر في مكان مرتفع لا تعرف أين . كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرا ، نهضت واستحمت وصلت الفجر وعادت إلى سريرها . حاولت أن تنام لم تستطيع فأخرجت دفترها الخاص وبدأت تكتب همسة جديدة لتبعثها إلى الجريدة .
 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه

الفصل 35






أمسك بالجريدة يتصفحها وقطعت نسرين قراءته عندما اتصلت تطلب منه الخروج معها لتناول العشاء خارجا . أرادت أن تخرجه من العزلة التي عاد إليها بعد سفر ريم ، فمنذ أن سافرت وهو يقضي معظم وقته في المنزل . عاد لقراءة الجريدة ووصل إلى الصفحة الثقافية ، ووجد همسة جديدة بانتظاره . قرأها بلهفة وفضول كبيرين ، فهو يريد أن يعرف ماذا كتبت له كاميليا هذه المرة .


" يدي ترتجفان من القلق
وعيني ذابلتين من الأرق
وقلبي من الشوق أحترق
فبدونك لا معنى لايامي
أحبك وأريد تمضية العمر معك ..

صبرت كثيرا ولم اعد أقوى
وسهرت ولم اعد أقوى
أتعبني الشوق والسهر
وأضعفني التفكير والضجر
إلى متى يا حبيبي؟..

فإذا لم ترتعش روحك لعذابي
وإذا لم يقرا قلبك كلماتي
وإذا لم تردك دموعي وآهاتي
فلن أفكر بك أبدا
ولن أكتب لك أبدا .."


كاميليا الناصر
الرسالة الأخيرة
.................


تنهد ودقات قلبه تتسارع بقوة . أغمض عينيه وهو يفكر في الرسالة . إنها الرسالة الأخيرة التي تكتبها إليه ولن توجه له همسة علنية في الجريدة تخصه بها من بين القراء. أعاد قراءتها عدة مرات . وجد نفسه حائرا لا يعرف ماذا يفعل وظل يفكر فيها وفي هذه الهمسة الأخيرة . تساءل لماذا ستتوقف عن إرسال الهمسات له . هل سئمت من الكتابة إليه ، هل سئمت من انتظار حبه ؟ تأكد بان كاميليا مازالت تفكر به وتقصد كل كلمة كتبتها اليوم وفي المرات السابقة ولم تكن تريد أن تزعجه ، أو تلومه وتذكره بأنه السبب في ما حصل لهما .

ظل يفكر في كاميليا حتى حان موعد خروجه مع نسرين التي أصطحبها وذهبا سويا إلى الخبر لتناول العشاء في احد الفنادق . قضى وقتا ممتعا برغم انشغاله بما كتبته كاميليا في الجريدة وتمنى لو تحدثه نسرين عنها كعادتها ولكنها لم تفعل . عاد لبيته قبل أن ينتصف الليل بقليل وتوجه لغرفته وهو ممسك بالجريدة . أعاد قراءة ما كتبته كاميليا مرة أخرى وشعور غريب ينتابه الليلة وهذه الهمسة هي السبب . كل همسة كانت تكتبها له تثير في نفسه عاطفة مختلفة ، ولكن هذه الهمسة أثارت في نفسه اللهفة لسماع صوتها . اخرج الجرائد التي كتبت له فيها وراح يقرأها منذ الهمسة الأولى .
بدل ملابسه وأطفأ الأنوار ودس جسده تحت لحافه وهو مازال يفكر بها . شعر برغبة عارمة تجتاحه لسماع صوتها ، مد يده وتناول هاتفه الجوال . تنهد وهو يتذكر كيف حصل على رقمها قبل خمس سنوات ، وكم كان مشدودا لها ويحاول كشف هويتها والتعرف عليها . الآن هي توجه له نداء علنيا في الجريدة وهو متردد . فكر بالاتصال بها وتراجع بسرعة . ماذا سيقول لها ، هل سيعاتبها أو يوبخها ، أو يقول لها بأنه لم يتوقف عن التفكير بها برغم من كل شيء . وبدون أن يشعر ضغط على رقم هاتفها الذي يحفظه عن ظهر قلب وراح يستمع لنغمة الهاتف وقلبه يخفق في صدره بقوة .. الرنة الأولى والثانية والثالثة .. والرابعة ثم أجابت .
ظل ساكتا وهو لا يسمع أي صوت من الطرف الآخر .لم يتكلم وظلت هي ساكتة ولكنه عرفها من أنفاسها . كان متأكد من أنها هي من تجيب ولكنها آثرت الصمت . ربما تكون مندهشة من اتصاله ، وربما تهزأ منه . أبعد سماع الجوال عن أذنه ونظر لعداد الوقت قد تجاوز الخمس دقائق من الصمت . استجمع شجاعته وقال بصوت متردد :
- آلو ..
وجاءه صوتها الرقيق ، الصوت الذي عشقه منذ أن سمعه صدفه عبر الهاتف . قالت له برقة ممزوجة بالعتب :
- ولماذا تسكت .. أليس لديك ما تقوله لي ؟
تنهد وسكت لا يعرف ما يقول ، فسألته :
- لماذا تتصل بي ؟
بلع ريقه وقال :
- لم أتحمل فكرة أن لا تكتبي لي من جديد .. لا أريد أن أكون خارج مدار حياتك .
تنهدت وأخبرته بأنها كتبت همستها الأخيرة بإحساس كبير وهي صادقة في ذلك . تفاجأ مما قالته فسكت للحظات ثم قال لها :
- أريد أن أراك .. ما رأيك لو نلتقي عصر الغد لنتحدث ؟
- لا استطيع .. فعدا يعود ناصر من رأس تنورة .. و..
قاطعها وسألها عن علاقتها به وحياتها معه ، فاغصبها سؤاله وهو يعرف ظروف زواجها كاملة فاعتذر منها وقال :
- ضروري أن أراك .. سآتي لا اصطحابك الآن .. أين منزلك ؟
لم تتوقع أن يطلب مقابلتها الآن بعد كل الذي حدث بينهما ، وبعد هذه القطيعة وهما متزوجان الآن ويريد أن يخرج معها بعد منتصف الليل ، قالت له باستنكار :
- الساعة تشير إلى الثالثة فجرا .. هل أنت مجنون ؟
- نعم .. وتجبني ما قد يفعله المجنون في هذا الوقت .
حاولت أن تقنعه بأن يتفقا على اللقاء في وقت آخر فمازلت غير متأهبة نفسيا للقائه ، ولا تعرف كيف تواجهه وماذا تقول له ، لكنه أصر وقال لها بأنه يعرق الحي الذي تكسنه لكنه لا يعرف البيت بالتحديد وهو مستعد لفعل أي شيء لرؤيتها حتى لو اضطر للاتصال بنسرين وسؤالها .

بقيت كاميليا تحت تأثير الصدمة من اتصال عماد بها بعد سنة ، وكم كانت تنتظر اتصاله قبلها . ظلت تنتظر اعتذاره عما فعله بحقها . سيطرت عليها الحيرة وهي تفكر وتتساءل بم يفكر ولماذا اتصل بها الليلة بالذات . لماذا تذكرها وهل كان يقرأ رسائلها الموجهة إليه في الجريدة . رن هاتفها مرة أخرى وجاءها صوته من جديد . اخبرها بأنه في سيارته وبعد دقائق سيكون في الحي حيث تسكن . قالت له :
- لا تكن متهورا ومجنونا .
أجابها منفعلا :
- وهل نفعني عقلي عندما خسرتك .. أين منزلك ؟.. سآتي وإذا لم تنزلي لي سأحدث فضيحة في الحي كله .
بلعت ريقها وأخبرته بأن منزلها يقع أمام مدرسة البنات ، وبسرعة بدلت ملابسها وارتدت عباءتها وما أن انتهت حتى أتصل بها يعلمها بوصوله . خرجت مترددة وخائفة وهي تغطي وجهها خوفا من أن ينتبه لها أحد من الجيران ، وجدته واقف بجانب سيارته بكل وسامته وسحره وثقته بنفسه . فتح لها باب السيارة فاقتربت منه وركبت وركب بجانبها وابتعد بسرعة . نظر إليها وطلب منها برقة أن تزيح الغطاء عن وجهها . رفعت غطاءها وأظهرت له وجهها فرمقها بشوق بالغ وقال :
- أنا مشتاق للكحل الأسود في عينيك .. لحبة الخال بجوار فمك .. ولم أنس ما حدث في باريس .
أحست ببرودة تسري في جسدها وظلت ساكتة وهو يسير بسيارته بسرعة في شوارع القطيف الشبة خالية متجها إلى الدمام . كانا ساكتين وهو يتقاسم النظر إليها مع الطريق كل لحظة ، وهي تنظر للميدالية الزجاجية التي أهدتها إياه . أراد أن يكسر الصمت المطبق فأدخل اسطوانة موسيقية لفيروز وبدأت تصدح بصوتها الملائكي ..

" يا أنا يا أنا .. أنا وياك
صرنا القصص الغريبة
يا أنا يا أنا .. أنا وياك
وانسرقت ماكتبتي
وعرفوا إنك حبيبي .."

كانت عينيها مصوبة على آية الكرسي في الميدالية التي أهدتها إياه ، والمعلقة على مرآة سيارته . مازال يحتفظ بها لتحميه وتقيه من الشر والحسد كما قالت له . تنهدت وهي تفكر بنفسها وبالطريق الذي تمشيه الآن ، شعرت بيده تقترب من يدها وهو ينظر إلى الميدالية . ظلت صامتة وأصابعه تتحسس يدها برقة جعلتها تضغط على يده قليلا وقلبها يرجف وتتمنى لو تلقى بنفسها بين ذراعيه حتى لو قتلها . توقفت السيارة في كورنيش الدمام بعد ربع ساعة من الصمت وتبادل النظرات السريعة . وجدا المكان خال سوى من السيارات المارة وبعض الشباب الذين انتهت سهرتهم للتو .
أسندت كاميليا رأسها إلى الوراء وهي تشيح وجهها عن عماد الذي فتح لها الباب ومد له يده ودعاها للنهوض . نزلت دون أن تمسك بيده وفرش البساط على الأرض ودعاها للجلوس . قالت له بعد تنهيدة عميقة :
- ما الذي تريده مني ؟
سكت وهو يتأمل عينيها العسليتين المغلفتين بالدموع وأجابها :
- أنا أريدك ؟.. وأنت ما الذي تريدينه ؟
نظرت إلى السماء وقالت :
- لا أعرف ؟
تفادت النظر لعينيه وهو يقول لها :
- أنا أحبك .. ومشتاق لك كثيرا .
تنهدت وارتسمت على وجهها ابتسامة سخرية والدموع تغرق عينيها وسألته :
- وهل تحبني وأنا امرأة مريضة نفسيا .. ومتزوجة تخون زوجها بخروجها معك ؟!
عقد حاجبيه وأمسك بيدها :
- زواجك باطل ولا أعترف به .. أنت تحبيني ..و ..
قاطعته ودموعها تسقط من عينيها :
- ولماذا قلت بأني خدعتك وبأني لا أحبك وأهنتني وأنا في بيتك ذلك اليوم .
اختنقت بدموعها فسكتت وهي تبكي . ضغط على يديها وهو يريد أن يضمها إليه ويهدئ من روعها ولكن وجوده أمام السماء والبحر والعشب الأخضر والشوارع في الدمام منعه من ذلك . قال لها :
- أعرف بأني كنت قاسيا ولقد دفعت الثمن بالكامل من أعصابي وقلبي .. يوم زفافك شعرت بأني مستعد لفعل أي شيء لاستعادتك .. لم أتخيل أن تمسك يد رجل آخر .. تمنيت لو أنني أخذت بيدك وذهبنا لأي مكان وأصبحنا زوجين .. ندمت لتصرفي معك وندمت على زواجي ولا فائدة .. لم أتمنى أن يرجع الزمن إلى الوراء لأصحح أخطائي كما أتمنى الآن .
أخرجت من حقيبتها منديلا وراحت تمسح دموعها وهي تقول له بحرقة عجزت عن إخفاءها :
- لقد دمرت حياتي .. أنا امرأة محطمة وأنت السبب .. أعيش مأساة بدأها والدي وأنت أكملتها .
ظل يتأملها وهي تمسح دموعها وقال :
- تغيرت كثيرا .. من الذي غيرك ؟.. فقبل سنة كنت فتاة صغيرة ومدللة .
تنهدت وأردف يقول وهو ينظر للبحر :
- لو أستطيع أن أرجع الأيام والزمن إلى الوراء لمرة واحدة في عمري لما جعلتك تخرجين من البيت وأنت تبكين ذلك اليوم .
استمرت في البكاء رغم كرهها لرؤيته لها تبكي فذلك يشعرها بضعفها أمامه ويذكرها بما أحسته عندما طردها . قالت له :
- لقد تعبت كثيرا ولجأت إلى طبيبة نفسية لم تفلح هي مع أدويتها في ردم الجروح العميقة التي خلفتها في قلبي .. جرحتني وكتبت لك في الجريدة لأشعرك بتأنيب الضمير وأثير في نفسك الذكريات والوعود .
نظرت له بعمق وقالت له من بين دموعها :
- كثرت الجروح في روحي .. أنا لست أنا .. وأفقد كاميليا السابقة .
مسح دموعها بيده وطلب منها برقة بالغة أن تتوقف عن البكاء وعن أخذ الحبوب النفسية التعيسة ، فتنهدت وقالت :
- لا أعرف لماذا أنا معك .. أحبك ولا أستطيع أن أنكر ذلك ولكن ..
أقترب منها أكثر وحاول أن يضمها إليه فقالت له :
- تعقل فنحن في الشارع .. ماذا لو رآنا أحد ؟.. الشرطة أو رجال الهيئة .
سكتت للحظات ثم سألته :
- ولماذا أتيت بي إلى هنا ؟
لم يجبها ونهض ودعاها للنهوض وأمسك بيدها ومشيا ببطء نحو البحر . ملأت رئتيها بالهواء ودموعها مازالت تغرق وجهها وقالت :
- ليت البحر قادر على غسل قلبي من كل أحزانه .
نظر إليها وأجابها مبتسما :
- لا يستطيع البحر ذلك .
استغربت رده فأوضح لها :
- أنا الوحيد القادر على ذلك .. أنا المسئول .
رفعت رأسها للسماء وهي تلاحظ تغير لونها فقد بدأت الشمس بنشر نورها على أرجاء الدنيا . بلعت ريقها وطلبت منه أن يعيدها إلى المنزل ، فهز رأسه نافيا وقال :
- لن أفعل .. سنعود إلى القطيف ونشتري إفطارا ونذهب إلى المزرعة لقضاء بعض الوقت .. وعندما تصبحين بخير أعيدك إلى المنزل .
أرادت أن ترفض لكنها لم تتمكن ، أمسكت بيده عندما مدها إليها مشت بقربه وصعدت سيارته ، وقبل أن يتحرك نزعت خاتم الزواج من يدها ورمته من النافذة فهي لا تريد أن يذكرها خاتم من الذهب بأنها متزوجة . ذهبا إلى شارع المطاعم وكان خاليا اشترى عماد فطورا من إحدى محلات الفول والتميس . وصلا إلى المزرعة والشمس قد أشرقت و العصافير تطير في السماء الصافية تغازل الأشجار . دخلا الاستراحة وتوجهت كاميليا إلى الحمام ، توضأت وصلت صلاة الصبح خلف عماد . وبعد أن فرغت قال لها مبتسما :
- هل دعيت لي في صلاتك ؟
وبنظرة أسى أجابته :
- أنا أعو لك دائما .. ولكن أخشى أن لا يقبل الله دعائي .

جلست في أحد زوايا الاستراحة بجلستها العربية الأنيقة التي زارتها من قبل مع نسرين وأمل وفاجأت عماد يومها بقدومها . أغمضت عينيها وأسندت رأسها للوراء وهي تشعر بتعب بعد هذه الليلة المليئة بالأحداث ، وفتحتهما عندما جاء عماد . دعاها لتناول الفطور فشربت رشفة من الشاي وهي ساهمة وعماد ينظر إليها . سألها :
- هل تشعرين بالنعاس ؟
لم تنطق واكتفت بالإيماء له بالنفي ، فقطع بيده الخبز وأعطاها ودعاها للأكل . راحت تأكل وهي ساكتة فخاطبها بنبرة غيرة بدت واضحة في طريقة كلامه :
- هل تودين العودة لمنزلك لتنتظري زوجك وتستعدي لاستقباله ؟
رشقته بنظرة حادة وآثرت عدم الرد ، فسألها :
- ولماذا لا تجيبين ؟
ضغطت على كأس الشاي بقوة ورفعت حاجبها وقالت بغضب :
- لست مضطرة للإجابة على هذا السؤال السخيف .
سألها بطريقة أزعجتها أكثر :
- هل تحبيه ؟.. هل تشتاقين لعودته وتتمنين أن يكون بقربك الآن بدلا مني ؟
لم تتملك نفسها وعماد يزعجها بأسئلته فرمت بكأس الشاي وانكسر أمام اندهاشه من ردة فعلها . ظل ساكتا وهي تبكي وقالت له وهي تنتحب :
- أنا أعيش في عذاب معه وأنت تسألني إذا كنت أحبه .. أنت تضعني في ضغط نفسي كبير لا أتحمله .
بلعت ريقها وقالت له وهي تنظر لعينيه السوداويين :
- ما الذي تريد أن تعرفه بالضبط ؟.. إن كنت تقصد علاقتنا الزوجية فلا شيء بيننا .. وأنا مازلت كما أنا .
أكتفى بالنظر إليها وهي تبكي . نهضت غاضبة من مكانها ، ولحق بها وهي تحاول الخروج من الاستراحة . امسك بذراعها بقوة وقال :
- أنا آسف .. فأنا احترق من الغيرة كلما فكرت بأنك معه طوال الوقت .. ولذا أتفوه بأي كلام .
رفعت رأسها ودموعها تسقط من عينيها بغزارة وقالت له بغصة :
- يبدو أنك مصمم على إيذائي .
أمسكها من كتفها وعينيه مصوبتان على عينيها فأدارت وجهها الغرق بالدموع عنه فهي لا تحتمل عمق نظراته ، وقال لها بلهجة آمرة :
- أطلبي منه الطلاق .. لا داعي لبقائك معه أكثر فأنت من حقي أنا .
نظرت إليه وقالت بنهنهة :
- طلبت الطلاق عدة مرات ورفض .. تركت المنزل بعد أن اكتشفت علاقته بالخادمة وأعادني والدي إليه رغما عني .. أنا محكوم علي بالسجن المؤبد معه .. لا تفديني المقاومة ولا الثورة ولا الانتفاضة .
بكت بمرارة وهو يقول لها :
- أنا أحبك ويجب أن تكون لي .. أنا مستعد لفعل أي شيء لننتهي معا .
ضمها إليه بقوة وهي تبكي بيأس وحزن على صدره ، وتستشعر حبه وحنانه وعاطفته التي تمكن من دك حصونها بقوتها فقط . رفعت الرايات البيضاء على قلبها مستسلمة ولم تنفعها حراسها وجنودها . بكت كما لم تبك من قبل وهي بين يديه ومختبئة بين ذراعيه . ساعدها على الجلوس وجلب لها كأسا من الماء البارد . بلل يده ومسح وجهها ودعاها لشرب القليل لتهدأ . ضمها إليه مجددا ومسح دموعها وهو يطمئنها بأنه سيجد حلا مناسبا ليخلصها من ناصر حتى وإن اضطر لقتله .

*****

استيقظت من نومها في السابعة مساء وهي تشعر بتعب بعد ليلة قضتها سهرا بالحديث والبكاء والعتاب ، ومع من ؟ مع عماد الذي تركها تبكي قبل عام ولم يبالي بدموعها وانكسارها . تركها تواجه حياتها مع ناصر ، والآن عاد ليقول لها بأنه مازال يحبها ووعدها بأن يجد لها حلا . وعدها بالخلاص كما وعدها بالحب والسعادة وكانت النتيجة هلاكها .
 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه
الفصل 36


ثلاثة أيام مرت على تلك الليلة الطويلة مع عماد في كورنيش الدمام والمزرعة . ورغم رفضها لملاقاته أثناء وجود ناصر في القطيف عمد الاتصال بها بين وقت وآخر ليطمئن عليها . أراد أن يراها لكنها رفضت لقاءه ، واكتفت بالمكالمات الهاتفية . خشي أن ترفض لقاءه مرة أخرى بعد تلك الليلة لكنها أخبرته بأنها ستراه من جديد بعد أن يذهب ناصر لعمله مساء الجمعة . في الثامنة مساءا أتصل بها وأخبرها بأنه في طريقه إليها ليصطحبها إلى العشاء ، وبرقة طلب منها أن تضع الكحل الأسود في عينيها فهو مشتاق إليه ، ضحكت من قلبها وهو يأخذ عليها عهدا بذلك .

تعطرت وتزينت ، ورسمت الكحل الأسود حول عينيها ووضعت أحمر الشفاه للامع ، ثم وضعت خاتم الياقوت في يدها والقرطين الماسيين في أذنيها وراحت تنتظر قدومه بشوق كبير .ظلت تفكر به وبهذا اللقاء . كم تحبه ، وكم هي ضعيفة أمامه ولا تستطيع أن ترفض له طلبا وتتلهف للقائه والخروج معه . رن هاتفها الجوال ولابد أن عماد هو المتصل بكل تأكيد ليخبرها بأنه ينتظرها أمام باب البيت ، لكن أمل هي المتصلة تذكرها بدعوة العشاء من إحدى زميلاتهن . اعتذرت عن عدم تمكنها من الذهاب ، وأخبرتها بأنها مدعوة على العشاء مع الحبيب المجهول الذي عاد إليها منذ البارحة . صعقت أمل من كلامها ، وحذرتها طالبة منها التعقل فهي متزوجة . ألقت عليها محاضرة طويلة حاولت من خلالها أن تثنيها عن لقاء حبيبها لكن كاميليا قالت لها بأنها ستخرج معه وستراه رغما عن الناس والمجتمع وأهلها والدنيا بأسرها . لم يعد يهمها الناس وأن لاكوها في أفواههم وأصبحت حديثهم في المجالس وعلى سماعات التليفون ورافقتها لعناتهم . لم ينفعها أحد عندما أرغمت على الزواج بناصر وعاشت معه سنة تعيسة أصبحت خلالها مريضة تراجع عيادة نفسية وتأخذ حبوبا عن الكآبة وحبوبا أخرى للنوم .

ركبت سيارة عماد . أمسك بيدها وطبع عليها قبلة أثارتها وغمرتها بسعادة لم تشعر بها من قبل أن تعرفه . عندما أغرقها باهتمامه وعاطفته . سارا في الطريق المؤدية إلى الخبر لتناول العشاء وصوت فيروز يصدح برقة وعنفوان ..

" تبقى ميل تبقى أسأل
متل الأول ضل أسأل
الله لا يشغلك بال
وديلي منك مرسال
أسأل .. أسأل .."

جلسا على طاولة في القسم العائلي في المطعم الهندي ، وسترهما النادل عن بقية الطاولات بحاجز خشبي أنيق . أزاحت كاميليا اللثام عن وجهها وأرخت حجابها وعماد مبهور بجمالها أخذ يتأملها بصمت على صوت الموسيقى الهندية الرائقة . بدت فاتنة بالكحل الأسود ورموشها الطويلة وحبة الخال راقدة في زاوية فمها . ابتسم وأمسك بيديها وقال لها برقة :
- أنت فاتنة .. أنت قطعة السكر التي أعشقها .
ضحكت وقالت له بصراحة لم تحدثه بها من قبل بأنها تحبه وسعيدة لعودتها إليه ، وختمت حديثها عندما أخبرته بنعومة بأنه صاحب أجمل عينين سوداويين رأتهما في حياتها . ابتسم بسعادة وأردف يقول :
- أحبك جدا ..
قطع النادل كلامه عندما جاء وسأله عما يريدان تناوله . اختارت كاميليا السلطة الخاصة وسلطة الخيار بالبن والكولا المثلجة . أختار عماد الطبق الرئيسي وهو الربيان المشوي مع البطاطس المقلية . أكلا وتحدثا كثيرا ، كانت تود أن تسأله عن حياته بعد سفر زوجته لكنها لم تفعل ، ظلت تتحدث معه مستمتعة بنظراته الشغوفة ، وكلماته وغزله ولهفته . لم تشعر بالسعادة كما أحست بها هذه الليلة . سعيدة مع عماد الذي أطلقت عليه الحبيب المجهول في أحاديثها مع أخته وابنة عمه .
ذهبا ليكملا السهرة في أحد المقاهي . جلسا قريبين من بعضهما شربا القهوة ، وضحكت من قلبها ويده تبعثر بشعرها ، ونظراته تلثم وجهها وعينيها ويديها . في الواحدة طلبت كاميليا منه أن يأخذها لبيتها فوافقها على مضض رغم رغبته بقضاء الليل معها . وصل لمنزله واتصل بها مباشرة ، لم تكن كاميليا متأكدة أنها كانت مستيقظة أو نائمة وتحلم بصوته وهو يقول لها بأنه يحبها ويريدها ، ويتمنى أن يكون معها لوحدهما وحتى وإن كانا في سجن أو غابة أو في المريخ .

نامت دون أن تأخذ حبوبها وهي تسمع صوت عماد يهمس في أذنيها ، واستيقظت أثر اتصاله بها صباحا . شعرت بالسعادة ونشوى وهو يخبرها بأنه فتح عينيه وأتصل بها مباشرة . غسلت وجهها ورطبته بالقليل من الكريم ومررت الكحل الأسود بحرفية على جفنيها . خرجت معه ولم تسأله عن وجهتهما وإلى أين سيأخذها . كانت سعيدة وهي تنتظره ومستعدة للذهاب معه لأي مكان . عرض عليها الذهاب للخبر وتناول الفطور في المجمع التجاري لكنها رفضت فهي تخاف أن يلحظها أحد . خرجا وهما لا يعرفان إلى أين يذهبان . يريدان مكانا لا يعرفهما أحد فيه ، عرض عليها الذهاب للمزرعة لقضاء النهار معا ، فقالت له وهي ترى حماسه :
- ألن تذهب للشركة ؟.. اليوم السبت وهناك دوام .
هز رأسه نافيا وضحك فهو مستعد لترك كل شيء وراء ظهره مادامت معه . ابتسمت فهي أيضا أخبرت صديقتيها بأنها عادت للحبيب المجهول واعتذرت عن لقائهما . ظنتها أمل تكذب لكن سعادتها الغامرة جعلت صديقتيها تصدقان وحذرتاها من التهور في علاقتها معه . سارا في شارع القدس متجهين نحو متجر واشتريا علبة لبنة وعلبة زيتون أخضر ، وكيس من الخبز الطازج وعددا من علب العصير والكولا . كانا سيعيدان وهما يضعان ما اشترياه في سلة التسوق وكأنهما زوجان يشتريان حاجياتهما ولا أحد يعرف بأن كل واحد منهما متزوج ولكن من شخص آخر . تذكر عماد وجبة الغذاء فذكر كاميليا وسألها بابتسامة عن الطبق الذي ستعده له . اندهشت وضحكت للفخ الذي أوقعها به فهي لا تجيد الطبخ ولا تحب غير تناول الطعام ، لكنه أصر فوافقته شريطة أن تطهو له شكشوكة . اشتريا ما يلزم وأكملا طريقهما إلى المزرعة وهما يستمعان لأغنية فيروز كان الزمان وكان التي تذكرهما بذكرى خاصة . دخلا الاستراحة سويا وضع عماد ما اشتراه في المطبخ وخرج ليجد كاميليا جالسة مستندة على أحد المساند وقد أرخت حجابها ونزعت النظارة الشمسية عن عينيها . جلس بجوارها ملاصقا فابتعدت عنه قليلا وضحك وهو يقول لها بأنه يحبها بعيدة أو قريبة . نهضت تعد الفطور بنفسها أمام عينيه التي تراقبها بسعادة وحب . وضعت حبات الزيتون في الطبق وفرشت اللبنة وسكبت عليها القليل من زيت الزيتون وحملته مع العصير في الصينية . تناولا فطورهما البسيط وضحك من قلبه عندما غنت له كاميليا أغنية الصبوحة ( عالبساطة البساطة يا عيني عالبساطة .. تغديني جبنة وزيتون وتعشيني بطاطا ) . كانا سعيدين وهما يتجهان لإسطبل الخيول ، وعماد يسرج خيله المفضلة ويساعدها على امتطائه . ركب خلفها وراحا يسيران في أرجاء المزرعة .
- أنا في الجنة .
هذا ما قالته كاميليا لعماد الذي نزع عنها حجابها ورمى بربطة شعرها على الأرض وبعثر شعرها بيده وهي مستندة على صدره . كانت فعلا تشعر بأنها في الجنة ، وكأنها حواء وعماد آدم ، فقال لها ممازحا :
- وماذا عن التفاحة ؟
ابتسمت وأجابته :
- لن نقترب منها حتى لا نطرد من الجنة .

تجولا في المزرعة بهدوء وهما يتحدثان ، وعندما اشتدت شمس الظهيرة عاد إلى الاستراحة . جلسا يشربان العصير وهما يتحدثا في أمور عديدة ، فاتحها عماد بمستقبل علاقتهما . طلب منها أن تعود لبيت والدها وتطلب الطلاق ، فرفضت لمعرفتها بأن والدها سيعيدها لناصر رغما عنها ، كانت تشعر بالقرف وهي تتذكر نفسها ووالدها يعيدها كالعنزة إلى حظيرة ناصر . قطع رنين هاتفه الجوال حديثهما عندما اتصل به فيصل يسأله عن سبب تغيبه عن الدوام فأخبره بأنه مشغول ولن يذهب اليوم للمصنع والشركة ، ومن ثم أقفل هاتفه فهو لا يريد أن يتصل به أحد وطلب من كاميليا أن تقفل هاتفها أيضا .

في الواحدة بعد الظهر توجهت كاميليا للمطبخ لإعداد الشكشوكة وعماد يساعدها وتناولاها مع الكولا وهو يمازحها ويشكرها فلقد تعبت في إعداد الغذاء الدسم . استند بأريحية على أحد المساند وكاميليا سعيدة بجانبه تشعر بقربها منه . أغمضت عينيها وهو يشم شعرها ، تذكرت ما قاله الشيخ عن الحب المحرم . ما قاله ينطبق عليها لكنها رفضت هذه الأفكار وأحلت حبها لعماد وشرعته ، وان كانت متزوجة برجل آخر لا تطيقه ورمت بخاتم زواجها به في كورنيش الدمام في الليلة التي عادت فيها لحبيبها . أسندت رأسها على كتفه بعفوية وذكرته بأحلامهما قبل سنوات .
- مازلت أراك زوجتي وأم أولادي .. وأحلم بأن أعود من عملي يوما ما وأراك بانتظاري .
قال ذلك برقة ففتحت عينيها وراحت تنظر له بصمت فتنهد بقوة وأردف :
- ما هو الثمن الذي يتوجب علينا دفعه للحياة لكي تجمعنا سويا ؟
سكت زاما شفتيه وهو يفكر بجديه في ثمن السعادة الذي سيدفعه مهما كان غاليا ، فرفعت كاميليا رأسها من كتفه وقالت له وهو تتأمل عينيه السوداويين الغامضتين .
- أحبك .. وأريد أن أكون معك .. سآكل من التفاحة حتى لو طردت من الجنة .
ابتسم وضمها إليه بقوة وظلا متعانقين في سكون وهما في عالم آخر لا أحد فيه غيرهما . كانا سعيدان دقات قلبيهما الخافقة وأنفاسهما المتلهفة . تذكرت كاميليا كلامها السابق لعماد عن الحب في السعودية عندما قالت له بأن الحب حرام هنا لذا يطاردونه ويعتقلونه أو يغتالونه . والآن هي بين ذراعي حبيبها رغما عن كل شيء وتعيش قصة حب لم تحلم بها يوما . ابتعدت عن عماد قليلا وراحت تنظر إليه وهو يتأمل عينيها العسليتين المحاطتين بالكحل الأسود ، فأمسك بجانب رأسها بيده اليسرى وسبابة يده اليمنى تتحسس حبة الخال في زاوية فمها . كان جادا عندما قال لها بثبات تشوبه الرقة :
- أريد أن أقبلك ومستعد للموت بعد ذلك .
فاجأها ما قاله فلم تستطيع أن تنطق . ظلت ساكتة تحدق بعينيه المتلهفتين وهو يقترب منها ، وشفتيه تلامس زاوية فمها بنعومة ، وقلبها ينبض بقوة وشفتيه تنتقل ببطء لتقطف القبلات من فمها . استسلمت لعناقه وقبلاته التي أشعلت وجهها وعنقها ، ويده تتجول برقة وانسيابية في جسدها المغطى بالعباءة .
- هذا لا يجوز يا عماد .. أرجوك .
قالت له ذلك وهي تشعر بأنها ستذوب بين يديه . حاولت أن تبتعد عنه لأنهما يتخطيا الخطوط الحمراء ، وأختلط الحلال بالحرام وهي لا تستطيع الإنكار فكل ما يشعران به ليس من حقهما . تماديا ويد عماد تمتد لعباءتها ويفك أزرارها العلوية . حدق بشغف وأذهلته ملابسها التي تظهر صدرها بشكله الطبيعي الجذاب . شعرت بأنها مشوشة بين عاطفتها التي لا تستطيع لجمها وبين تحذيرات صديقتيها . تذكرت كيف لامت سماح عندما أخبرتهن بأنها حامل من خطيبها بعد عقد قرانهما ، وكيف أجبرها والديها على إلغاء حفل الزفاف خوفا من الفضيحة عندما تظهر في الحفل وتغيرات الحمل ظاهرة في جسدها ويتداول الناس خبر العروس الحامل التي تحمل الطفل بين يديها بدلا من باقة الورد كما كانوا يتندرون من كل فتاة تتزوج وهي حامل . بلعت ريقها ووقفت بوجه مشاعرها التي طغت على عقلها واستجمعت شجاعتها ونهضت وقالت له :
- هذا يكفي .. ليس من حقنا أن نحب بعضنا بهذه الطريقة .
حاول إقناعها ، لكنها ارتدت عباءتها ووضعت حجابها على رأسها والدموع تندي عينيها وطلبت منه الخروج من المزرعة حالا فهي تريد أن تعود لمنزلها . ظل عماد ساكتا فصرخت فيه بانفعال ودموعها تتساقط ببطء على خديها :
- أعدني لمنزلي حالا فلن أبقي هنا .
أقترب منها وأمسك بيدها ودعاها للجلوس لكنها كانت مصرة على الذهاب قالت له صراحة بأنها عذراء وعليها أن تبقى كذلك . هز رأسه وجلب لها كأسا من الماء شربت منه وخرجا من المزرعة . كانت الشمس توشك على الغروب وهما يسيران بصمت مطبق عائدين إلى وسط المدينة . ظل عماد يقود سيارته وهو ينظر لكاميليا التي أشاحت وجهها عنه وعينيها على الشارع من خلال النافذة . مد يده ليسمك يدها فأبعدتها ، فهي لا تريده أن يلمسها وتضعف من جديد أمام حبه . قال لها :
- لا تعامليني بهذه الطريقة .
لم تنظر إليه وظلت ساكتة فتنهد وقال لها :
- أعملي بأن الإنسان لا يتحكم بقلبه ومشاعره .. والقلب الذي يحب كاميليا لا يستطيع أن يحب غيرها .

وصلا إلى حي الجزيرة أوقف عماد السيارة أمام باب منزلها . همت بالخروج فأمسك بيدها رغما عنها وقال لها بأنه سيتصل بها حالما يصل إلى منزله . توجهت مباشرة لغرفتها ورمت نفسها على السرير . استعاذت من شيطان الهوى وراحت تبكي وهي تفكر بما حصل اليوم وتحمد ربها على أنها تصدت لطغيان حبها في الوقت المناسب . انتحبت بقوة وهي وحدها في هذا البيت الخالي ولا تستطيع أن تقول لأحد عما تشعر به . كانت تشعر بثقل كبير يجثو على صدرها ويمنعها من التنفس براحة ، فنهضت وأخذت منشفتها ودخلت الحمام لتستحم . فركت جسدها بقوة وكأنها تريد أن تغسل عنه قبلات عماد ولمساته . وقفت تحت رشاش الماء وهي تبكي بقوة وقد عقدت عزمها على قطع علاقتها بعماد ، فلن تعود للقائه أو الحديث معه بعد اليوم .

خرجت من الحمام وارتدت ملابسها دون أن تضع كريماتها الخاصة أو الزيت العطري ، وفرشت سجادة الصلاة لتصلي المغرب . بكت وهي تفكر بمواجهة ربها بعد الذي حدث . بكت بحرقة وهي تدعو الله أن يغفر لها ويسامحها وأعلنت توبتها عن هذا الحب الذي طغى عليها . لن تسمح لنفسها بأن تفكر بعماد وستحكم عقلها ولن تسمح لقلبها بالنبض حبا له .ذهبت إلى المطبخ وجلبت لها قنينة كولا وعادت لغرفتها . شربت كأس الكولا وأخرجت هاتفها الجوال من حقيبتها الخاصة لتفتحه ، وما أن ضغطت على الزر وظهرت شاشة الترحيب حتى أتاها اتصال عماد . أجابت عليه بسرعة لتقول له عن عزمها على قطع علاقتهما فجاءها صوته الحنون :
- لماذا لم تفتحي هاتفك يا قطعة السكر .. ظلت أتصل بك وجهازك مغلق .. هل أنت بخير ؟
بلعت ريقها وهي تشعر بالضعف أمام صوته وعتابه وقلقه عليها . فتنهدت وقالت له :
- ما بيننا انتهى .. لا تتصل بي .. مرة أخرى .
تفاجأ من كلامها فلم يجادلها .. وطلب منها أن تهدا وترتاح وسيتصل بها في اليوم التالي ليطمأن عليها .. قالت له بحدة :
- لا تتصل بي مرة أخرى .. لقد اتخذت قراري ولن أعدل عنه .. مع السلامة .

أغلقت هاتفها ووضعته على الطاولة وبكت بشدة . بكت على التعاسة التي تشعر بها الآن فلقد ازداد أمرها سوءا . أرادت أن تتوقف عن التفكير فأخرجت حبوبها القديمة من الدرج وابتلعت ثلاث حبات من حبوب الكآبة والنوم ، واستلقت على سريرها لتنام وتتلافى التفكير بما حصل ، وبعد عشر دقائق كانت تغط في نوم عميق.
 

أمير ورد

¬°•| مشرف سابق |•°¬
إنضم
1 يناير 2013
المشاركات
854
متابـــــــــــــــــــــع

الجميل في القصة أنها تحاكي واقع ملموس ...والأجمل أنها تصف الأشياء الدقيقة للمواقف .....

راقت لي القصة كثيراً ....

واصلي ابداعك ... تميزك .... وانثري دررك ....

الله يعطيك العافية
 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه
متابـــــــــــــــــــــع

الجميل في القصة أنها تحاكي واقع ملموس ...والأجمل أنها تصف الأشياء الدقيقة للمواقف .....

راقت لي القصة كثيراً ....

واصلي ابداعك ... تميزك .... وانثري دررك ....

الله يعطيك العافية





حياك الله أخي العزيز أمير الورد
يسعدني متابعتك وتنويرك متصفحي
الله يعطيك العافية
لا عدمنا طلتك
 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه



الفصل 36


ثلاثة أيام مرت على تلك الليلة الطويلة مع عماد في كورنيش الدمام والمزرعة . ورغم رفضها لملاقاته أثناء وجود ناصر في القطيف عمد الاتصال بها بين وقت وآخر ليطمئن عليها . أراد أن يراها لكنها رفضت لقاءه ، واكتفت بالمكالمات الهاتفية . خشي أن ترفض لقاءه مرة أخرى بعد تلك الليلة لكنها أخبرته بأنها ستراه من جديد بعد أن يذهب ناصر لعمله مساء الجمعة . في الثامنة مساءا أتصل بها وأخبرها بأنه في طريقه إليها ليصطحبها إلى العشاء ، وبرقة طلب منها أن تضع الكحل الأسود في عينيها فهو مشتاق إليه ، ضحكت من قلبها وهو يأخذ عليها عهدا بذلك .

تعطرت وتزينت ، ورسمت الكحل الأسود حول عينيها ووضعت أحمر الشفاه للامع ، ثم وضعت خاتم الياقوت في يدها والقرطين الماسيين في أذنيها وراحت تنتظر قدومه بشوق كبير .ظلت تفكر به وبهذا اللقاء . كم تحبه ، وكم هي ضعيفة أمامه ولا تستطيع أن ترفض له طلبا وتتلهف للقائه والخروج معه . رن هاتفها الجوال ولابد أن عماد هو المتصل بكل تأكيد ليخبرها بأنه ينتظرها أمام باب البيت ، لكن أمل هي المتصلة تذكرها بدعوة العشاء من إحدى زميلاتهن . اعتذرت عن عدم تمكنها من الذهاب ، وأخبرتها بأنها مدعوة على العشاء مع الحبيب المجهول الذي عاد إليها منذ البارحة . صعقت أمل من كلامها ، وحذرتها طالبة منها التعقل فهي متزوجة . ألقت عليها محاضرة طويلة حاولت من خلالها أن تثنيها عن لقاء حبيبها لكن كاميليا قالت لها بأنها ستخرج معه وستراه رغما عن الناس والمجتمع وأهلها والدنيا بأسرها . لم يعد يهمها الناس وأن لاكوها في أفواههم وأصبحت حديثهم في المجالس وعلى سماعات التليفون ورافقتها لعناتهم . لم ينفعها أحد عندما أرغمت على الزواج بناصر وعاشت معه سنة تعيسة أصبحت خلالها مريضة تراجع عيادة نفسية وتأخذ حبوبا عن الكآبة وحبوبا أخرى للنوم .

ركبت سيارة عماد . أمسك بيدها وطبع عليها قبلة أثارتها وغمرتها بسعادة لم تشعر بها من قبل أن تعرفه . عندما أغرقها باهتمامه وعاطفته . سارا في الطريق المؤدية إلى الخبر لتناول العشاء وصوت فيروز يصدح برقة وعنفوان ..

" تبقى ميل تبقى أسأل
متل الأول ضل أسأل
الله لا يشغلك بال
وديلي منك مرسال
أسأل .. أسأل .."

جلسا على طاولة في القسم العائلي في المطعم الهندي ، وسترهما النادل عن بقية الطاولات بحاجز خشبي أنيق . أزاحت كاميليا اللثام عن وجهها وأرخت حجابها وعماد مبهور بجمالها أخذ يتأملها بصمت على صوت الموسيقى الهندية الرائقة . بدت فاتنة بالكحل الأسود ورموشها الطويلة وحبة الخال راقدة في زاوية فمها . ابتسم وأمسك بيديها وقال لها برقة :
- أنت فاتنة .. أنت قطعة السكر التي أعشقها .
ضحكت وقالت له بصراحة لم تحدثه بها من قبل بأنها تحبه وسعيدة لعودتها إليه ، وختمت حديثها عندما أخبرته بنعومة بأنه صاحب أجمل عينين سوداويين رأتهما في حياتها . ابتسم بسعادة وأردف يقول :
- أحبك جدا ..
قطع النادل كلامه عندما جاء وسأله عما يريدان تناوله . اختارت كاميليا السلطة الخاصة وسلطة الخيار بالبن والكولا المثلجة . أختار عماد الطبق الرئيسي وهو الربيان المشوي مع البطاطس المقلية . أكلا وتحدثا كثيرا ، كانت تود أن تسأله عن حياته بعد سفر زوجته لكنها لم تفعل ، ظلت تتحدث معه مستمتعة بنظراته الشغوفة ، وكلماته وغزله ولهفته . لم تشعر بالسعادة كما أحست بها هذه الليلة . سعيدة مع عماد الذي أطلقت عليه الحبيب المجهول في أحاديثها مع أخته وابنة عمه .
ذهبا ليكملا السهرة في أحد المقاهي . جلسا قريبين من بعضهما شربا القهوة ، وضحكت من قلبها ويده تبعثر بشعرها ، ونظراته تلثم وجهها وعينيها ويديها . في الواحدة طلبت كاميليا منه أن يأخذها لبيتها فوافقها على مضض رغم رغبته بقضاء الليل معها . وصل لمنزله واتصل بها مباشرة ، لم تكن كاميليا متأكدة أنها كانت مستيقظة أو نائمة وتحلم بصوته وهو يقول لها بأنه يحبها ويريدها ، ويتمنى أن يكون معها لوحدهما وحتى وإن كانا في سجن أو غابة أو في المريخ .

نامت دون أن تأخذ حبوبها وهي تسمع صوت عماد يهمس في أذنيها ، واستيقظت أثر اتصاله بها صباحا . شعرت بالسعادة ونشوى وهو يخبرها بأنه فتح عينيه وأتصل بها مباشرة . غسلت وجهها ورطبته بالقليل من الكريم ومررت الكحل الأسود بحرفية على جفنيها . خرجت معه ولم تسأله عن وجهتهما وإلى أين سيأخذها . كانت سعيدة وهي تنتظره ومستعدة للذهاب معه لأي مكان . عرض عليها الذهاب للخبر وتناول الفطور في المجمع التجاري لكنها رفضت فهي تخاف أن يلحظها أحد . خرجا وهما لا يعرفان إلى أين يذهبان . يريدان مكانا لا يعرفهما أحد فيه ، عرض عليها الذهاب للمزرعة لقضاء النهار معا ، فقالت له وهي ترى حماسه :
- ألن تذهب للشركة ؟.. اليوم السبت وهناك دوام .
هز رأسه نافيا وضحك فهو مستعد لترك كل شيء وراء ظهره مادامت معه . ابتسمت فهي أيضا أخبرت صديقتيها بأنها عادت للحبيب المجهول واعتذرت عن لقائهما . ظنتها أمل تكذب لكن سعادتها الغامرة جعلت صديقتيها تصدقان وحذرتاها من التهور في علاقتها معه . سارا في شارع القدس متجهين نحو متجر واشتريا علبة لبنة وعلبة زيتون أخضر ، وكيس من الخبز الطازج وعددا من علب العصير والكولا . كانا سيعيدان وهما يضعان ما اشترياه في سلة التسوق وكأنهما زوجان يشتريان حاجياتهما ولا أحد يعرف بأن كل واحد منهما متزوج ولكن من شخص آخر . تذكر عماد وجبة الغذاء فذكر كاميليا وسألها بابتسامة عن الطبق الذي ستعده له . اندهشت وضحكت للفخ الذي أوقعها به فهي لا تجيد الطبخ ولا تحب غير تناول الطعام ، لكنه أصر فوافقته شريطة أن تطهو له شكشوكة . اشتريا ما يلزم وأكملا طريقهما إلى المزرعة وهما يستمعان لأغنية فيروز كان الزمان وكان التي تذكرهما بذكرى خاصة . دخلا الاستراحة سويا وضع عماد ما اشتراه في المطبخ وخرج ليجد كاميليا جالسة مستندة على أحد المساند وقد أرخت حجابها ونزعت النظارة الشمسية عن عينيها . جلس بجوارها ملاصقا فابتعدت عنه قليلا وضحك وهو يقول لها بأنه يحبها بعيدة أو قريبة . نهضت تعد الفطور بنفسها أمام عينيه التي تراقبها بسعادة وحب . وضعت حبات الزيتون في الطبق وفرشت اللبنة وسكبت عليها القليل من زيت الزيتون وحملته مع العصير في الصينية . تناولا فطورهما البسيط وضحك من قلبه عندما غنت له كاميليا أغنية الصبوحة ( عالبساطة البساطة يا عيني عالبساطة .. تغديني جبنة وزيتون وتعشيني بطاطا ) . كانا سعيدين وهما يتجهان لإسطبل الخيول ، وعماد يسرج خيله المفضلة ويساعدها على امتطائه . ركب خلفها وراحا يسيران في أرجاء المزرعة .
- أنا في الجنة .
هذا ما قالته كاميليا لعماد الذي نزع عنها حجابها ورمى بربطة شعرها على الأرض وبعثر شعرها بيده وهي مستندة على صدره . كانت فعلا تشعر بأنها في الجنة ، وكأنها حواء وعماد آدم ، فقال لها ممازحا :
- وماذا عن التفاحة ؟
ابتسمت وأجابته :
- لن نقترب منها حتى لا نطرد من الجنة .

تجولا في المزرعة بهدوء وهما يتحدثان ، وعندما اشتدت شمس الظهيرة عاد إلى الاستراحة . جلسا يشربان العصير وهما يتحدثا في أمور عديدة ، فاتحها عماد بمستقبل علاقتهما . طلب منها أن تعود لبيت والدها وتطلب الطلاق ، فرفضت لمعرفتها بأن والدها سيعيدها لناصر رغما عنها ، كانت تشعر بالقرف وهي تتذكر نفسها ووالدها يعيدها كالعنزة إلى حظيرة ناصر . قطع رنين هاتفه الجوال حديثهما عندما اتصل به فيصل يسأله عن سبب تغيبه عن الدوام فأخبره بأنه مشغول ولن يذهب اليوم للمصنع والشركة ، ومن ثم أقفل هاتفه فهو لا يريد أن يتصل به أحد وطلب من كاميليا أن تقفل هاتفها أيضا .

في الواحدة بعد الظهر توجهت كاميليا للمطبخ لإعداد الشكشوكة وعماد يساعدها وتناولاها مع الكولا وهو يمازحها ويشكرها فلقد تعبت في إعداد الغذاء الدسم . استند بأريحية على أحد المساند وكاميليا سعيدة بجانبه تشعر بقربها منه . أغمضت عينيها وهو يشم شعرها ، تذكرت ما قاله الشيخ عن الحب المحرم . ما قاله ينطبق عليها لكنها رفضت هذه الأفكار وأحلت حبها لعماد وشرعته ، وان كانت متزوجة برجل آخر لا تطيقه ورمت بخاتم زواجها به في كورنيش الدمام في الليلة التي عادت فيها لحبيبها . أسندت رأسها على كتفه بعفوية وذكرته بأحلامهما قبل سنوات .
- مازلت أراك زوجتي وأم أولادي .. وأحلم بأن أعود من عملي يوما ما وأراك بانتظاري .
قال ذلك برقة ففتحت عينيها وراحت تنظر له بصمت فتنهد بقوة وأردف :
- ما هو الثمن الذي يتوجب علينا دفعه للحياة لكي تجمعنا سويا ؟
سكت زاما شفتيه وهو يفكر بجديه في ثمن السعادة الذي سيدفعه مهما كان غاليا ، فرفعت كاميليا رأسها من كتفه وقالت له وهو تتأمل عينيه السوداويين الغامضتين .
- أحبك .. وأريد أن أكون معك .. سآكل من التفاحة حتى لو طردت من الجنة .
ابتسم وضمها إليه بقوة وظلا متعانقين في سكون وهما في عالم آخر لا أحد فيه غيرهما . كانا سعيدان دقات قلبيهما الخافقة وأنفاسهما المتلهفة . تذكرت كاميليا كلامها السابق لعماد عن الحب في السعودية عندما قالت له بأن الحب حرام هنا لذا يطاردونه ويعتقلونه أو يغتالونه . والآن هي بين ذراعي حبيبها رغما عن كل شيء وتعيش قصة حب لم تحلم بها يوما . ابتعدت عن عماد قليلا وراحت تنظر إليه وهو يتأمل عينيها العسليتين المحاطتين بالكحل الأسود ، فأمسك بجانب رأسها بيده اليسرى وسبابة يده اليمنى تتحسس حبة الخال في زاوية فمها . كان جادا عندما قال لها بثبات تشوبه الرقة :
- أريد أن أقبلك ومستعد للموت بعد ذلك .
فاجأها ما قاله فلم تستطيع أن تنطق . ظلت ساكتة تحدق بعينيه المتلهفتين وهو يقترب منها ، وشفتيه تلامس زاوية فمها بنعومة ، وقلبها ينبض بقوة وشفتيه تنتقل ببطء لتقطف القبلات من فمها . استسلمت لعناقه وقبلاته التي أشعلت وجهها وعنقها ، ويده تتجول برقة وانسيابية في جسدها المغطى بالعباءة .
- هذا لا يجوز يا عماد .. أرجوك .
قالت له ذلك وهي تشعر بأنها ستذوب بين يديه . حاولت أن تبتعد عنه لأنهما يتخطيا الخطوط الحمراء ، وأختلط الحلال بالحرام وهي لا تستطيع الإنكار فكل ما يشعران به ليس من حقهما . تماديا ويد عماد تمتد لعباءتها ويفك أزرارها العلوية . حدق بشغف وأذهلته ملابسها التي تظهر صدرها بشكله الطبيعي الجذاب . شعرت بأنها مشوشة بين عاطفتها التي لا تستطيع لجمها وبين تحذيرات صديقتيها . تذكرت كيف لامت سماح عندما أخبرتهن بأنها حامل من خطيبها بعد عقد قرانهما ، وكيف أجبرها والديها على إلغاء حفل الزفاف خوفا من الفضيحة عندما تظهر في الحفل وتغيرات الحمل ظاهرة في جسدها ويتداول الناس خبر العروس الحامل التي تحمل الطفل بين يديها بدلا من باقة الورد كما كانوا يتندرون من كل فتاة تتزوج وهي حامل . بلعت ريقها ووقفت بوجه مشاعرها التي طغت على عقلها واستجمعت شجاعتها ونهضت وقالت له :
- هذا يكفي .. ليس من حقنا أن نحب بعضنا بهذه الطريقة .
حاول إقناعها ، لكنها ارتدت عباءتها ووضعت حجابها على رأسها والدموع تندي عينيها وطلبت منه الخروج من المزرعة حالا فهي تريد أن تعود لمنزلها . ظل عماد ساكتا فصرخت فيه بانفعال ودموعها تتساقط ببطء على خديها :
- أعدني لمنزلي حالا فلن أبقي هنا .
أقترب منها وأمسك بيدها ودعاها للجلوس لكنها كانت مصرة على الذهاب قالت له صراحة بأنها عذراء وعليها أن تبقى كذلك . هز رأسه وجلب لها كأسا من الماء شربت منه وخرجا من المزرعة . كانت الشمس توشك على الغروب وهما يسيران بصمت مطبق عائدين إلى وسط المدينة . ظل عماد يقود سيارته وهو ينظر لكاميليا التي أشاحت وجهها عنه وعينيها على الشارع من خلال النافذة . مد يده ليسمك يدها فأبعدتها ، فهي لا تريده أن يلمسها وتضعف من جديد أمام حبه . قال لها :
- لا تعامليني بهذه الطريقة .
لم تنظر إليه وظلت ساكتة فتنهد وقال لها :
- أعملي بأن الإنسان لا يتحكم بقلبه ومشاعره .. والقلب الذي يحب كاميليا لا يستطيع أن يحب غيرها .

وصلا إلى حي الجزيرة أوقف عماد السيارة أمام باب منزلها . همت بالخروج فأمسك بيدها رغما عنها وقال لها بأنه سيتصل بها حالما يصل إلى منزله . توجهت مباشرة لغرفتها ورمت نفسها على السرير . استعاذت من شيطان الهوى وراحت تبكي وهي تفكر بما حصل اليوم وتحمد ربها على أنها تصدت لطغيان حبها في الوقت المناسب . انتحبت بقوة وهي وحدها في هذا البيت الخالي ولا تستطيع أن تقول لأحد عما تشعر به . كانت تشعر بثقل كبير يجثو على صدرها ويمنعها من التنفس براحة ، فنهضت وأخذت منشفتها ودخلت الحمام لتستحم . فركت جسدها بقوة وكأنها تريد أن تغسل عنه قبلات عماد ولمساته . وقفت تحت رشاش الماء وهي تبكي بقوة وقد عقدت عزمها على قطع علاقتها بعماد ، فلن تعود للقائه أو الحديث معه بعد اليوم .

خرجت من الحمام وارتدت ملابسها دون أن تضع كريماتها الخاصة أو الزيت العطري ، وفرشت سجادة الصلاة لتصلي المغرب . بكت وهي تفكر بمواجهة ربها بعد الذي حدث . بكت بحرقة وهي تدعو الله أن يغفر لها ويسامحها وأعلنت توبتها عن هذا الحب الذي طغى عليها . لن تسمح لنفسها بأن تفكر بعماد وستحكم عقلها ولن تسمح لقلبها بالنبض حبا له .ذهبت إلى المطبخ وجلبت لها قنينة كولا وعادت لغرفتها . شربت كأس الكولا وأخرجت هاتفها الجوال من حقيبتها الخاصة لتفتحه ، وما أن ضغطت على الزر وظهرت شاشة الترحيب حتى أتاها اتصال عماد . أجابت عليه بسرعة لتقول له عن عزمها على قطع علاقتهما فجاءها صوته الحنون :
- لماذا لم تفتحي هاتفك يا قطعة السكر .. ظلت أتصل بك وجهازك مغلق .. هل أنت بخير ؟
بلعت ريقها وهي تشعر بالضعف أمام صوته وعتابه وقلقه عليها . فتنهدت وقالت له :
- ما بيننا انتهى .. لا تتصل بي .. مرة أخرى .
تفاجأ من كلامها فلم يجادلها .. وطلب منها أن تهدا وترتاح وسيتصل بها في اليوم التالي ليطمأن عليها .. قالت له بحدة :
- لا تتصل بي مرة أخرى .. لقد اتخذت قراري ولن أعدل عنه .. مع السلامة .

أغلقت هاتفها ووضعته على الطاولة وبكت بشدة . بكت على التعاسة التي تشعر بها الآن فلقد ازداد أمرها سوءا . أرادت أن تتوقف عن التفكير فأخرجت حبوبها القديمة من الدرج وابتلعت ثلاث حبات من حبوب الكآبة والنوم ، واستلقت على سريرها لتنام وتتلافى التفكير بما حصل ، وبعد عشر دقائق كانت تغط في نوم عميق.
 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه
الفصل 37

أربعة أيام بعد تلك الحادثة وبعد قرار قطع علاقتها بعماد نهائيا ، لم تسمع فيها صوته ولم تره بعد أن أصبح عاملا مهما في يومياتها منذ أن عاد لبعضهما . ظلت جالسة في البيت تفكر في حياتها واستقبلت أمها وأختها مرة ، وصديقتها مرة واعتذرت عن الخروج معهما عدة مرات . زارتها ناهد ولم تخبرها بما حصل ، ولأول مرة تخفي عنها وعن أختها شيئا يخص علاقتها بعماد . حتى صديقتيها حين سألتاها عن الحبيب المجهول قالت لهما بأنها قطعت علاقتها به وحكمت عقلها . ذهبت للمطبخ وشربت كأسا من الكولا أشعرها بألم في معدتها الخاوية فأخذت دواء الحموضة وذهبت ترد على هاتفها الثابت . كانت أختها شذى تدعوها إلى الخروج فاعتذرت فهي تفضل البقاء في البيت في اليوم الذي يعود فيه ناصر تجنبا للمشاكل ، واقترحت على أختها أن تأتي لتقضي معها بعض الوقت وتمر في طريقها بأحد مطاعم الوجبات السريعة وتجلب لهما الغداء.

ظلت جالسة في غرفتها تنتظر أختها وهي تفكر بعماد ، لا بد أنه يتصل بها دائما ويجد هاتفها مقفلا . شعرت بألم في قلبها وهي تتجه بلا واعي نحو درجها وتخرج كتابها المصون الذي تكتب فيه أشعارها ورسائلها لعماد والتي نشرت بعضها في الجريدة . راحت تتذكر ما حصل بينهما في المزرعة . هي دائما ضعيفة أمامه ، واستسلمت له منذ أن غزا قلبها وحياتها بحبه واهتمامه وذوقه قبل سنوات . أصبحت أسيرة لعينيه السوداويين اللتين غيرتا مجرى حياتها فلم تعد كما كانت ، استطاع بحبه ولهفته أن يجعلها تخرج للقائه في المقاهي والمطاعم وتذهب معه للكورنيش فجرا وتقضي نهارا معه في مزرعته لوحدهما . تأففت وهي تنجرف في تيار الفكر بعماد وبالحب الذي تحمله له في قلبها . نظرت لساعتها كانت تشير إلى الرابعة والربع ولم تأت شذى بعد لتخرجها من أفكارها وتتسلى معها .

اتصلت بها لتسألها عن سبب تأخيرها فطلبت منها أن تفتح لها الباب وتستعد لاستقبالها فهي تأخرت لأنها مرت بمحل الحلويات لشراء كعك التراميسو . نزلت بسرعة للصالة .. رن جرس الباب فأسرعت تفتح الباب لتساعد أختها في حمل الأغراض .. شهت بدهشة عندما رأت عماد أمامها وعينه السوداويين مصوبتين عليها بنظرات بهما خليط من الغضب والقلق والعتب . دفعها للداخل وأغلق باب المنزل الخارجي . بلع ريقه وسألها بحدة :
- لماذا تقفلين هاتفك ولا تردين على اتصالاتي ؟.. أنا مشغول البال أفكر بك وأنت جالسة هنا مرتاحة .
طلبت منه الخروج وقالت له:
- كيف تسمح لنفسك بأن تأتي لبيتي .. أنسيت بأني امرأة متزوجة ؟
أقترب منها وابتعدت عنه فقال لها :
- أخبرتك بأني مجنون .. ولا على المجنون حرج .
تأففت وقالت له بهدوء يشوبه الخوف :
- أرجوك يا عماد .. أذهب ودعني وشأني وأختي شذى ستصل في أي لحظة ولا يجب أن تراك هنا .. كما أن ناصر سيعود اليوم من عمله .. لا تسبب لي مزيدا من المشاكل ولا تكن عبئا عليّ .
أمسك بذراعها وراح يحدق بعينيها وكأنه يذكرها بلحظات الحب الذي جمعتهما في المزرعة قبل أيام . قال لها بحزم :
- لا أريد أن أفقدك الآن .
قال جملته وضمها لصدره فشعرت بالضعف وقلبها يطلب منها موافقة حبيبها ويزين لها حلاوة العودة إليه ، لكنها سرعان ما تذكرت ما حدث في المزرعة فأخرجت نفسها من بين ذراعيه وطلبت منه أن يخرج حالا . شعر بغضب لم يستطع كتمانه وطلب منها أن تذهب معه حالا . قال لها :
- لن أسمح ببقائك هنا .. ستذهبين لمنزل والدك حالا لتطلبي الطلاق من زوجك النذل .. فلا يجب أن يعود الليلة ويراك .
كان مصمما على أن يأخذها بنفسه لبيت والدها لكنها رفضت فهي تعرف بأن ذلك لن يعود عليها بالفائدة ، فلو عاد ناصر ووجدها في بيت والدها تطلب بالطلاق ستزداد الأمور سواء وسيعيدها والدها رغما عنها شاءت أم أبت فلا أحد يهتم برأيها . اشتد غضبه فأفلت ذراعها وقال لها وهو يهم بالخروج :
- إذن لا تنتظري عودته اليوم .. أقسم بالله العظيم بأني سأكون بالمرصاد وسأقتله .
خرج بسرعة مصطدما بشذى الذي استغربت وجوده فأخبرتها بما حدث بينهما منذ أن عادا لبعضهما . بكت وهي تخبر أختها بتهديد عماد بقتل ناصر المتكرر ، فلقد قال لها ذلك عدة مرات وفي مناسبات مختلفة . اقترحت عليها شذى أن تتصل به ليهدأ على أن تعود للقائه في أي مكان عام بعد ذهاب ناصر يوم الجمعة . اقتنعت بذلك واتصلت به ولم يجبها ظلت حائرة تفكر وهي خائفة أن يتهور ويورط نفسه . مر الوقت وهي جالسة مع أختها وعلا صوت أذان المغرب فصلت ودعت من الله أن يهدي عمادها ويبعده عن درب ناصر . أمضت وقتها في قلق والوقت يمر والساعة تجاوزت الثامنة وناصر لم يعد بعد . اتصلت بهاتفه فلم يرد عليها . كانت هذه المرة الأولى التي تتصل به منذ أن تزوجا ولكنها قلقة الآن عن سبب تأخير عودته فطالما كان وجوده خارجا مريحا لها .
أنتصف الليل في القطيف وناصر لم يعد بعد ولا يرد على اتصالاتها . زاد قلقلها فعماد لا يجيب أيضا . ظلت كاميليا حائرة وخائفة ، وقلقة تفكر فيهما معا . وفجأة رن الهاتف فأسرعت لتجيب فوجدت عمها عبد العزيز يتصل ليسألها عن ناصر . تذكرت قسم عماد بقتله فشعرت بقشعريرة في أطرافها وطلبت من أختها أن تبقى لتبيت معها الليلة . تناولت حبوبها ولم تستطيع أن تهدأ إلا بعد أن أخذت ثلاث حبات من كل دواء لتنام دون أن تفكر بشيء كما تعودت . نامت على سريرها وشذى بجانبها واستيقظت في التاسعة صباحا على صوت هاتفها الجوال فهبت له بسرعة فربما يكون ناصر هو المتصل ، ولأول مرة تنتظر اتصاله بفارغ الصبر . لكن المتصل كان والدها يخبرها بلهجة غريبة بأنه في طريقه إليها . شعرت بألم يجتاح صدرها فأيقظت شذى . جلستا تنتظران والدهما الذي نادرا ما يزورها ، حتى هي لم تكن تذهب إلى منزل والديها كثيرا منذ أن أخرجت منه بالقوة لمنزل ناصر . اتصلت بعماد ولم يجبها ، وبعد دقائق وصل والدها ففتحت له الباب والقلق والتوتر وصلا في نفسها إلى أقصى درجة .

جلس والدها بوجهه المتجهم وابنتيه بجانبه وقال لهما بأن رجال الشرطة عثروا صباح اليوم على ناصر ميتا في سيارته على طريق الجبيل والتحقيقات قائمة لمعرفة ملابسات الحادث . شهقت كاميليا وهي تصفع على وجهها فهذا ما كانت تخشاه . فعلها عماد وقضى على نفسه ومستقبله وحياته وقضى عليها . شعرت بأنها منهارة وأغمضت عينيها وأسندت رأسها إلى الوراء فاقدة الوعي .


*********************
كان في طريقه إلى السعودية بعد أن قضى ليلة البارحة في البحرين . مازال متضايقا بعد ما حدث بالأمس ، ومستنكرا عدم قدرته على لجم مشاعره وانفعاله وغضبه . تنهد وهو يعبر بسهولة جمارك البحرين ويقف في طابور طويل من السيارات في الجمارك السعودية . تمنى لو يفصلون موظفي الجوازات عن بعضهم ويضعوا كل واحد منفرا لما تأخر أحد ، لكنهم يضيعون الوقت في الحديث وشرب الشاي . ضغط على زر تشغيل الموسيقى وجاءه صوت فيروز ..


" يا مختار المخاتير بحكيلك الحكاية
انا ما بحب الشرح كتير ولا في عندي غاية
بدي تفللني بكير يا مختار المخاتير ..
هني كانوا زعلانين أنا شو بدي فيهن
قلت براضي العاشقين زعلوا أهاليهن
حطوا الحق عليي وقالوا هالحشرية
يصطفلوا شو ما صار يصير
وخلي هالزير بهالبير
يا مختار المختيار .."


أخفض الصوت والموظف المسئول يطلب منه التوقف في أحد المواقف من اجل التفتيش . أطفأ محرك السيارة وترجل ليفسح المجال للموظف ليأخذ راحته ، ففتح أدارج السيارة الأمامية كلها ، وفتش الجيوب وأسفل المقاعد وصندوق السيارة وبعد أن انتهى . ختم له على الورقة وسمح له بالذهاب .

دخل منزله الخالي فأستقبله رنين الهاتف . جلس في الركن الفرنسي ورفع السماعة وتحدث مع أمه القلقة عليه والتي لا تعرف عنه شيئا منذ الأمس . طمأنها واخبرها بأنه قضى ليلته في البحرين ودعته لتناول العشاء معها قبل أن تخرج لزيارة صديقاتها فوافق . توجه لمنزل والد مباشرة وجلس مع أمه يتحدثان ثم جاء والده وجلسوا حول المائدة لتناول العشاء . أكل معكرونة الدجاج بالجبن بشهية ثم شرب شاي النعناع وهو يفكر بكاميليا التي عادت وقطعت علاقتها به بعد أسبوع جميل قضاه معها ، وعندما أرادها أن تترك بيت زوجها رفضت . عادت إليه الشكوك من جديد فهاهي ترفض مدعية فشل محاولاتها السابقة ، وأن والدها سيعيدها لزوجها كما أعادها قبلا . دائما تحتج بأنها لا تستطيع أن تفعل شيئا أمام والدها . خرج من دائرة أفكاره وشكوكه حين دخلت نسرين وجلست بجانبه وقالت له :
- اتصلت بك ألف مرة وجهازك مقفل .. خير ؟
فرك جبينه بإصبعه وقال :
- لا شيء مهم .
امتعضت أمه من أجابته المبهمة واستدارت لنسرين وسألتها عن كاميليا مما استدعى انتباهه . سألتها :
- وكيف هي كاميليا الآن .. هل اخرجوا زوجها من المستشفى ؟
هزت رأسها وقالت :
- ليس بعد أن تنتهي التحقيقات .
فتح عينيه بدهشة وهو يشعر بجفاف في حلقه وسال أخته عما حدث لزوجها فأخبرته بأن رجال الشرطة وجدوه صباح اليوم ميتا في سيارته . فرك جبينه وهو يتذكر تهديداته لكاميليا بان يقتل زوجها . كان يرى ذلك حلا مؤقتا فهو لم يجد بعد طريق مؤكد لتنتهي معاناتها ، ولم يفكر كونه متزوجا وزوجته في لندن منذ شهر أو أكثر . فكر أن يعترض طريقه أثناء عودته أو يستدرجه لأي جهة وينهي عليه ويرتاح من هذا الكابوس ، ولكن بمجرد ركوبه في سيارته أبعد الفكرة من رأسه واستعاذ من الشيطان وهو يتذكر كلام ماجد عن هوى النساء المؤذي .

خرج من منزل والديه ومشى بسيارته في شارع الكورنيش وهو حائر ومشتت الأفكار . اتصل بكاميليا عدة مرات ولم تجبه فقرر الذهاب لمنزل والديها في حي الخامسة . أوقف سيارته قرب أحد البيوت المقابلة وظل يراقب الحركة . بعد دقائق لمح والدها يوقف سيارته ويدخل فعاود الاتصال بها ولم ترد عليه أرسل لها رسالة نصية يخبرها بأنه موجود أمام باب البيت ويعلم بأن والدها قد عاد لتوه وهددها بأنه سيدخل ويخبر والدها بكل شيء في حال استمرت بتجاهله . اتصلت به بعد دقيقة وبدا صوتها متغيرا وهي تقول :
- ماذا تريد الآن ؟
بلع ريقه وقال :
- عرفت بما جرى .. الحمد الله فلو لم يمت لربما تهورت وقتلته .
قالت له بسخرية :
- وهل تكذب وتصدق الكذبة ؟

ذكرته بما قاله لها عندما زارها عصر الأمس وطلب منها أن لا تنتظر عودة ناصر فهو سيترصد له ويقتله . برغم كراهيتها له وبغضه وكل الأذى الذي ذاقته وعاشته معه إلا أن بدنها يرتعد كلما فكرت بأنه أصبح في عالم الأموات وهي أرملته الآن . تفاجأ من كلامها ولهجتها المليئة بالاتهامات . وأوضح لها بأنه هددها بقتله ثم عاد لمنزله مباشرة وأخذ جواز سفره وتوجه إلى البحرين وقضى الليلة هناك وعاد اليوم . قالت له :
- لو لم تأت لبيتي وتهددني وتتوعدني بقتله لما شككت بك .. لكنك ..
قاطعها بعصبية :
- لقد قلت ذلك ولكني لم أقتله .. يجب أن تصدقيني .. هل أحضر لك جواز سفري لتتأكدي بأني كنت في البحرين ؟
ظلت ساكتة وهو يقول لها بأنه لا يصدق بأنها تشك بارتكابه جريمة قتل ، وسألها إذا ما تأكد بأنه مات مقتولا فقالت له :
- نحن ننتظر تقرير المستشفى بفارغ الصبر .. أتمنى أن تكون بريئا من دمه .
قالت ذلك ثم اعتذارات عن إكمال الحديث معه لأنها مشغولة . عاد لبيته وهو حزين لما وصلت إليه علاقته بكاميليا . أصبح يشوبها شكوك واتهامات وجرائم ، أحس بالضيق وهو يتذكر لهجتها القاسية في الكلام معه .

**************

خرج من الشركة وهو لا يعرف إلى أين يذهب . مشى بمحاذاة البحر من الدمام ومرورا بسيهات وعنك حتى وصل إلى الكورنيش القطيف . فكر بالذهاب لأمه فاتصل بها وأخبرته بأنها تتسوق مع نسرين . أوقف سيارته وفتح النافذة واسند رأسه إلى الوراء وهو يفكر بكاميليا ، فهو ينتظر اتصالها منذ ثلاثة أيام . رن هاتفه مرة أخرى وكانت ريم هي المتصلة . عاتبته على عدم اتصاله بها فهو لم يتصل إلا مرة أو اثنتين بعد سفرها ليطمئن على وصولها إلى لندن ودائما هي من تتصل به .

جلس في سيارته لبعض الوقت يتأمل البحر بنظرات تائهة ، ثم عاد لمنزله وتوجه لغرفة نومه . رمى بنفسه على السرير وهو يفكر ويتساءل . يا للمفارقة الغريبة يموت زوج كاميليا في اليوم التالي لتهديده بالقتل ، وإنها تشك فيه الآن . أغمض عينيه رغما عنه وراح يتذكر يوم قتل علاء وكيف كانت التحقيقات حيث بقيت جثته في المستشفى لعدة أيام .

************

غسل رغوة الحلاقة عن وجهه وخرج من الحمام وتفكيره محصور بكاميليا التي لم تتصل به ، بالتأكيد وصلها خبر ما عن تقرير الطبيب الشرعي أو التحقيقات . قاد سيارته متجها للشركة وهو يشعر باستياء كبير . ركب المصعد وتفاجأ عندما رأى صورته على مرآة المصعد . كان وجهه عابسا وحزينا لدرجة ضايقته أكثر . دخل إلى مكتبه وطلب من موظف الكافتيريا فنجان من القهوة التركية . أمسك ببعض التقارير وسرعان ما وضعها جانبا عندما جاءت القهوة . شرب القليل منها وجاءه رنين هاتفه الجوال تتصل به من ينتظرها بلهفة . رد بسرعة وجاءه صوتها الرقيق الذي أحبه منذ سمعه بالصدفة . قالت له بلهجة يفوح منها الحزن والأسف :
- أنا آسفة لشكوكي بك حبيبي .. صدقني كنت خائفة عليك .
ظل ساكتا فتابعت حديثها تخبره بأن التقرير النهائي بين بأن سبب وفاة ناصر هو سكتة قلبية مفاجئة أدت إلى اصطدام سيارته بجانب الطريق ، ووجد أثر ضربة على عنقه مما جعل رجال الشرطة يشكو بأنه مقتول ، كما وجدوا نسبة الكحول في دمه مرتفعة . قال لها :
- أريد أن أراك .
- لا أستطيع .. سيدفن بعد قليل وعلي أن أحضر الفاتحة ومجالس العزاء فأنا أمام الناس أرملته وسأبقى أربعة أشهر وعشرة أيام في العدة .
- لا يهم .. سنتزوج بعد إنتائها مباشرة .. أنا أحبك كاميليا وتعبت من الانتظار .

قال ذلك وأضطر لإنهاء الحديث عندما دخل فيصل وجلس أمامه . تحدثا بشأن العمل . لبعض الوقت ودعاه لتناول العشاء في منزله .

ذهب مساءا لمنزل أخته التي رحبت به وذكرته بعمق علاقتهما قبل زواجها . كما كانا قريبين من بعضهما وكم ابتعدا بعد زواجها وكأنهما لم يعيشا في بيت واحد . انشغلت ندى بزواجها ثم بإنجابها ، وكثيرا ما اتهمها بأنها نسيت عائلتها وعاشت لعائلتها الجديدة . وكثيرا ما يذكرها بأنه تحمل ضربة الحذاء أمه من أجلها في حادثة الطبلة . تناول عشاءه وأمضى الوقت في الحديث مع ابن عمه وأخته التي عرضت عليه أن يذهب لزيارة زوجته في لندن فرفض . لم يرد رؤيتها فهو لم يكن موافقا على سفرها لكنه سمح بذلك في الوقت الذي كانت كاميليا ترسل له رسائلها في الجريدة لتعذبه وتضغط على جرحه بقلمها وهمساتها .

خرج من منزل أخته وعرج على ماجد وقضى معه بعض الوقت ثم عاد لبيته وتوجه لغرفة نومه وكاميليا تطوق أفكاره . هي في العدة الآن وعليه أن يتزوجها بعد ذلك . تذكر ريم وهي زوجته وابنة عمته أيضا . زواجه بها كان خطئا كبيرا وعليه أن يطلقها حالما تعود من لندن ويصحح الخطأ .
بقي أربعة أشهر وعدة أيام كيف سيتحملها وهو الذي تعب من الانتظار ، ويريد الزواج بها بسرعة ويكفى انتظار خمس سنوات . أتصل بكاميليا وصبرته بأن الأيام تمر بسرعة وسينام ويصحو ويجد أن المدة قد مرت بسرعة دون أن يتنبه . تفاجأ عندما سألته عن زوجته المتعجرفة فوعدها أن يطلقها متى عادت من سفرها ، وأخذ منها وعدا أن لا يؤثر ذلك على زواجهما لو أن العدة انتهت قبل عودتها فلن يطلقها وهي مسافرة . أنهى حديثه المطول ونام وهو يدعو الله أن تمر الأيام بسرعة ويستيقظ من نومه ويجد العدة شارفت على النهاية .

 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه


الفصل 38


أستحم وتعطر ، وارتدى بذلة أنيقة اختارها سواد بالكامل لتتناسب مع عينيه وشعره وتعزز شخصيته . قاد سيارته وقلبه يدق بقوة والسعادة ترقص أمام عينيه بإغراء . كان متلهفا لكاميليا وتذكر لقاءه الأول بوالدها وكيف خطبها منه ورد عليه بأنه جاء متأخرا فابنته مخطوبة لابن عمها . الآن مات ناصر وانزاحت العقبة وكاميليا ليست مرتبطة بأحد . انتهت العدة وهي مستعدة للزواج ، وحتى فحص قبل الزواج أجرته بسرية تامة استعدادا للزواج بعد انتهاء العدة مباشرة . حافظت على السرية وحتى صديقتيها لم تخبرهما بشيء وهما تظنان أن علاقتها بحبيبها المجهول مازالت مقطوعة .

ترجل من سيارته وهو يتذكر الملاحظات التي أعطتها له . طلبت منه أن لا يخبر والدها بأنه يعرفها لا من بعيد ولا من قريب ، وغير أنها صديقة أخته لا يجب أن يقول . كما طلبت منه الموافقة على أي شروط يضعها . جلس في أحد زوايا المجلس فهو تذكره عندما جاء وتقدم لخطبتها قبل سنة . قدم له الشاي والفاكهة بنفس الطريقة السابقة عندما جاء يجر عربة التقديم . شرب عماد رشفة من الشاي ودخل في صلب الموضوع مباشرة وطلب يد كاميليا بثقة فهي أرملة ولا بد أنه سيسهل زواجها به . ابتسم والدها العابس دائما وقال له :
- ولماذا تأتي لخطبتها وحدك للمرة الثانية ؟
تنهد عماد وعلا وجهه ابتسامة المفاجأة فلم يتوقع أن يسأله هذا السؤال بالذات . توقع أن يسأله عن سبب تمسكه بها مثلا أو سبب زواجه للمرة الثانية . أجابه :
- لم اعد شاب الذي لم يسبق له الزواج .. أنا رجل وأريد الزواج بأخرى .. وبما أني أطمع في مناسبتك جئت أطلب يد كريمتك مرة أخرى .
سكت والدها للحظات بدت طويلة لعماد المتلهف لسماع رأيه وهو يراقب تعبير وجهه فربما تعطيه أشارة ما ليفهم ما سيقوله . هز رأسه وقال :
- لقد انتهت عدة ابنتي قبل يومين وصعب جدا أن اعقد قرانها بهذه السرعة وذلك احتراما لأخي ولعائلة ناصر بأسرها .. ماذا سيقول عني الناس .. إضافة إلى أنك متزوج وهذا أمر آخر لم أتحدث عنه .
بلع ريقه وأخبره بأنه وزوجته شبة منفصلان ، وسكت للحظة ثم أردف :
- لا داعي لإقامة حفلة زفاف .. لنعقد قراننا ونسافر لأي مكان ..و..
قاطع حديثه قائلا :
- أنا آسف .. فتوقيتك غير صالح هذه المرة أيضا .. لن أزوج ابنتي الآن احتراما لذكرى ابن أخي .

انتهت الزيارة وخرج من منزل حبيبته للمرة الثانية والرفض المسبق معه . تمنى لو يمهله والدها عدة أيام ثم يعطيه رده ، لكنه يرفضه وجهها لوجه وخلال دقائق . عاوده الإحساس بالخذلان من الدنيا ، هي تخذله وتسرق منه السعادة دائما . يخاف أن يبتسم أو يفرح أمامها ، فلم يشعر بالسعادة إلا وأنكسر ظهره بعدها . قاد سيارته بسرعة لا يعرف إلى أين يذهب . أراد أن يتصل بكاميليا ويخبرها لكنه لم يفعل ، فالكرة الآن في ملعبها وقد أدى دوره كاملا . جاء لخطبتها للمرة الثانية ووالدها رفضه من أجل ذكرى ناصر . كان يشعر بدمه يغلي ودقات قلبه تقرع كالطبل في أذنيه . أحس برغبة عارمة في تفريغ غضبه ، وما أن احتكت السيارة التي بجانبه بزاوية سيارته حتى فتح النافذة وانهال على السائق بالسباب ولو لم تفتح الإشارة لربما ترجل وضربه .

مشى في شارع القدس وأمام مفترق الطريق أنعطف يمينا واتجه نحو جزيرة تاروت . سار في شارع أحد لا يعرف إلى أين يذهب . تمنى لو يوجد شخص ما في هذه المدينة يستطيع أن يخبره أو يبوح له بما في قلبه . كان مستعدا لأن يدفع أي ثمن ليحصل على صديق يحمل فكرا لا ينتمي لهذا البلد ويستطيع أن يتكلم معه بحرية ويخبره بما يجول في خاطره . قبالة قلعة تاروت الأثرية رن هاتفه وكاميليا هي المتصلة . سألته عما جرى بينه وبين والدها ، فقال لها بغضب :
- والدك رفضني احتراما لذكرى ناصر هذه المرة .. ليتني قتلته لأشفي غليلي منه .
بدت له شجاعة وهي تقول :
- اهدأ حبيبي .. سأحول أن أفتح معه الموضوع أو مع أمي فلن أبقى مكتوفة اليدين هذه المرة .. سأخبره بمعرفتي بالأمر وبأني أريدك .

عادت وطلبت منه أن يهدأ وأن يعود لبيته وينتظر اتصالها وفعل . جلب له قنينة ماء وكأس وجلس في الركن الفرنسي وبدأ يستمع لفيروز فربما تستطيع أن تمتص غضبه بصوتها وعذوبته .

*******************

نزلت كاميليا الدرج لتوجه والدها بمعرفتها بأمر خطبة عماد لها ولن تدعه يخفي الأمر عنها كما أخفاه أول مرة . وجدت والديها وأختيها مجتمعين في الصالة يشاهدون التلفزيون بصمت تتخلله أحاديث بين شذى وهديل . جلست بقرب من شذى التي عاشت معها ولادة حبها لعماد واستأذنت والدها برغبتها في الحديث معه أمام الجميع . أذن لها وأحست بالخوف من والدها ينتظر كلامها بوجهه العابس ، ونظرات الاستغراب ترتسم على وجه أمها وأختيها . بلعت ريقها وقالت :
- أبي .. لقد أرغمتني على الزواج من ناصر ودفعت الثمن من حسابي الخاص وهذا يكفي .
سألها عن قصدها من وراء هذه المقدمة ، فقالت :
- أعرف بأن عماد الغانم شقيق صديقتي نسرين جاء اليوم لخطبتي وأنت رفضته احتراما لذكرى ناصر .. أرجوك يا أبي لا تعلقني به حيا وميتا والعدة انتهت وأنا الآن حرة .
ظل والدها للحظات وهي تنتظر ما سيقوله فاستجمعت شجاعتها وقالت له بصراحة أنها تريد الزواج بعماد ، فقال لها بحدة لم تخلو من الدهشة :
- انتهت العدة قبل أيام .. ماذا أقول لأخي ؟وماذا أقول الناس ؟
لم تنظر له وهي تقول :
- ناصر مات والعدة الشريعة انتهت وأستطيع الزواج متى أريد ولا شأن لي ..و..
قاطعها منهيا الأمر :
- لست موافقا على زواجك الآن .. لا من عماد ولا من غيره .. وانتهى الأمر .
تندت وعينيها بالدموع وشعرت بالقهر من رفض والدها الذي مازال يصر على ربطها بمبادئه العائلية الخاصة وهو يعلم بأنها دفعت ثمن فشل زواجها من أعصابها وحياتها . تغيرت كثيرا بعد زواجها بناصر وكان أول ردة فعل انتابتها هي الابتعاد عن والدها فلم تكن تزوره إلا نادرا .
أغرقت عينيها بالدموع وقالت له بأنها تريد الزواج من عماد وتعرف بأنه تقدم لخطبتها قبل زواجها بناصر وبأنه رفضه بدون أن يسألها أو يعلمها على الأقل ، وسكتت عندما شعرت بغصة الدموع في حلقها فتدخلت أمها وطلبت من زوجها أن يفكر بالأمر وختمت :
- عماد شاب جيد وابن عائلة .. ودع قرار الزواج هذه المرة لها فإذا كانت تريده دعها تتزوجه وتتحمل مسؤولية قرارها .
غضب منها وقال لابنته بعصبية حاول السيطرة عليها طوال الوقت :
- ولماذا أنت متلهفة على الزواج بعد خروجك من العدة بأيام .. أصبري فأنت مازلت ..
لم يكمل كلامه وجاءه ردها المفاجئ الذي نزل عليه كالصاعقة عندما رفعت رأسها ونظرت له بعينيها الغارقتين بالدموع :
- أنا أحب عماد وسأتزوج به رغما عن الجميع ويكفي ما حدث لي وأنت السبب .. ولن يقف ناصر في طريقي وهو في قبره .. ولن أضحي بشيء من أجل سمعة هذه العائلة البائسة التي أكرهها من كل قلبي .

لم يكن والدها مستوعبا لما قالته وظل في مكانه صامتا فنهضت من مقعدها ووقفت أمامه وأخبرته بأنه تعرف عماد منذ خمس سنوات . وطلبت منه أن ينتظرها حتى تتخرج من الجامعة ليتزوجا وفعل ، وعندما حكم عليها بالموت مع ناصر جاء لخطبتها دون فائدة . راحت تصرخ بهستيريا أمام الجميع وهي تقترب من ساند الدرج :
- لن أسمح لكم بالوقوف في وجه سعادتي هذه المرة .
قالت جملتها وركضت نحو غرفتها وأقفلت الباب عليها . كانت تبكي بنحيب وحرقة وخوف . حزينة لأنها وصلت لهذه المرحلة التي تقف فيها بوجه والدها وخائفة من ردة فعله التي لم تظهر حتى الآن . رمت بنفسها على سريرها وأغمضت عينيها وما لبثت أن فتحتهما بهلع ووالدها يضرب بقوة على باب غرفتها ويحاول فتحه وصوته المرتفع وصراخه يرهبها . بكت أكثر وهي تسمع تهديداته وتشعر بأنها تسرعت وتهورت بإخباره بحقيقة علاقتها بعماد . ظل يضرب الباب غرفتها وهو يسمعها التهديدات والشتائم والوعيد بدفنها بجانب ناصر . ظلت ساكتة وخائفة ومتيقنة بأنها لو فتحت الباب لوالدها فهي تعطيه رخصة ليرسلها إلى عالم الآخرة .
جلست على سريرها وهي تسمع أمها تحاول لملمة غضب والدها وتحثه على الهدوء وحل الموضوع في وقت آخر ، فخف صراخه تدريجيا وقال لها قبل أن يذهب :
- لن تتزوجي به ما دمت حيا يا ملعونة .. سأعيد تربيتك من جديد وسابقيك حبيسة في هذا البيت .. حتى العمل لن اسمح به وسأزوجك بأول من يطرق الباب سوى ابن الغانم .

شعرت بالحيرة وهي تفكر بوالدها وغضبه وتهديداته فهو لن يغفر لها هذا الخطيئة ولو دفعت عمرها كله من اجل الحصول على صك الغفران . سيسامحها في أي شيء إلا علاقتها بأي رجل وهي تعرف ذلك جيدا . جاءت شذى تطرق بابها وتطلب منها أن تفتحه ورفضت ، وجاءت لها أيضا عدة مرات ولم تفتح لها . ظلت ساكتة ولا ترد ولا يسمعون سوى صوت بكائها . أمسكت بهاتفها واتصلت بعماد الذي ينتظرها وقالت له من بين دموعها :
- وقفت في وجه والدي من أجلك .. فهل ستتخلى عني هذه المرة أيضا ؟
سألها عما حدث فأخبرته باختصار بكل الذي جرى ، وان والدها صار يعرف بأنهما على علاقة لم تخبره بمداها أو حدودها .
- أنا متمسك بك .. ومستعد للتفاوض مع والدك من جديد .
قال لها ذلك وهو يحاول أن يمتص غضبها ، فقالت له بحزم :
- هل أنت مستعد لكي نكون معا .. حتى لو بعد فضيحة .
وطلبت منه أن يأتي لأخذها في الثالثة فجرا فهي لن تبقى في هذا المنزل ليلة أخرى بعد ما حدث .

*******************

انتصف الليل وهي مازلت في غرفتها والخوف يتملكها كلما جاءت شذى تطرق بابها بهدوء ، وفتحت لها عندما أقسمت لها بأن والديها في غرفتهما . صارحتها كاميليا بحقيقة نيتها بالهروب مع عماد لإجبار والدها على السماح بزواجهما . حاولت شذى أن تثنيها فوجدتها مصممة ومصرة على الذهاب معه والزواج به ولو بعد فضيحة فلم يعد يهمها شيء . ظلت تبكي والوقت يمر بسرعة ويركض نحو ساعة الهروب . شعرت بالخوف وهي تفكر بما سيحدث ، وكيف ستكون ردة فعل والديها . كيف ستكون ردة فعل عائلة عماد وبالخصوص نسرين وأمل . حاولت أن تبرر فعلتها فوالدها هو السبب لماذا لا يدعها تتزوج بمن تريد بعد كل الذي حصل وبعد ما قاسته من عذاب في السنة الفائتة .

خرجت شذى من غرفة أختها في الساعة الثانية والنصف لتطمئن على وضع البيت ووجدته هادئا والأنوار مطفأة والكل نيام . عادت لأختها التي ارتدت عباءتها وجهزت لها حقيبة صغيرة وضعت بها القليل من الملابس وأدويتها وأوراقها الهامة وكل هدايا عماد وزجاجات العطر التي تحتفظ بها ، وورقة الفحص الطبي واتصلت به تخبره بأنها جاهزة . تأكدت من أنها وضعت خاتم الياقوت في خنصر يدها اليمنى ، وعانقت أختها وطلبت منها أن تذهب لسريرها وتنسى كل ما دار بينهما فلا يجب أن تكون على معرفة بخروجها ، وعليها أن تتفاجئ مع الجميع عندما لا يجدوها في غرفتها صباحا . شعرت بقلبها يضرب في جسدها بعنف والقشعريرة تسري في جميع أطرافها عندما أتصل بها عماد يخبرها بأنه واقف أمام باب المنزل . نزلت الدرج بخفة لص وفتحت الباب الخارجي وهي تشعر بأن والدها قد يفاجئها في أي لحظة وعندها سيذبحها بكل تأكيد . ركبت سيارة عماد ودموعها تغرق وجهها وطلبت منه الذهاب بعيدا .

وصلا إلى المزرعة النائمة والمتدثرة بأغطية الليل والسوداء ودخلا الاستراحة الهادئة لدرجة الخوف . جلست كاميليا في احد الزوايا وهي تشعر بأنها بعيدة عن كل شيء في هذا العالم ولا احد يتصور بأنها مع عماد في مزرعته في الجش . غطت وجهها بكفيها وبدأت تبكي بحرقة على صدر عماد التي تنازلت عن كثير من الأمور المقدسة لأي فتاة من اجله . التصقت به معانقة ودموعها تبلل قميصه ، وطلبت منه أن لا يتخلى عنها الآن . هي بحاجته أكثر من أي وقت مضى بعد أن خرجت بكامل إرادتها من عباءة عائلتها وتخلت عن حمايتهم وأسمهم لتكون بجانبه . لم تأبه بوالدها ولا بسمعة العائلة عندما يستيقظوا بعد ساعات وهي غير موجودة والجملة التي ستشيع بأن ( كاميليا هربت ) . لا يهمها المجتمع ولا القطيف والناس ، وستضحي بكل شيء من اجله .

مسح عماد دموعها وقبل ما بين عينيها ووعدها بأنه لن يتخلى عنها مهما حدث ، ولن يتركها إلا عندما تخرج روحه من جسده ، ضمها لصدره بقوة وهي تنتحب وتبكي وتفكر بموقف عائلتها . سيتصلون بصديقاتها ليسألوا عنها وستفاجأ نسرين وأمل فهما لا تعرفان عن مجريات الأمور الأخيرة بينها وبين حبيبها المجهول الذي لا يعرفون هويته وهو اقرب الناس لهما . سيحققون مع شذى وستخبرهم بأنها لا تعرف شيئا عن الموضوع ويتصلوا بناهد وسيشيع الخبر .

أقفل عماد هاتفه وطلب منها أن تقفل هاتفها وفعلت ، ثم أستأذنها وتوجه للمطبخ وجلب لها كاس من الماء فشربت رشفة ووضعت الكأس على الأرض وأخرجت من حقيبتها حبوبها المنومة . ابتلعت ثلاثة أقراص رغم ممانعة عماد فهي تريد أن تنام ولا تفكر بشيء . نهضت متوجهة إلى الحمام وتوضأت وصلت الفجر ودموعها مازلت تتدفق من عينيها بحرارة . أرادت أن تنام فأخذها عماد لغرفة النوم وطمأنها بأنه سينام في الغرفة المقابلة وسيبقى بابه مفتوحا في حال احتاجت لأي شيء . تمنى لها ليلة سعيدة ومد يده ليغلق الباب فقالت له من بين دموعها :
- لا تغلق الباب فلو لم ائتمنك على نفسي لما جئت معك .
اقترب منها وعينيه السوداويين تتفحص عينيها المتعبتين من البكاء . قبل جبينها وذهب للغرفة الأخرى وأطفأ الأنوار واستلقى على السرير . أغمض عينيه وهو غير مصدق لما يحدث فكاميليا معه الآن كما أرادت عندما جاءته قبل سنة . كانت خطتها إيهام عائلتها بالهروب معه بينما تكون في منزل خالها ، أما الآن فلقد فعلتها . هو الآن مسئول عنها وسيتحمل تبعات ما يحصل مع عائلته وعائلتها . هما الآن معا رغما عن الحياة والمجتمع والناس . لم يستطع النوم بسرعة رغم نعاسه وهو يفكر بردة فعل أهله عندما يعرفوا ، وماذا يجب عليه أن يفعل . هل يختفي عنهم أيضا أم يخبرهم بأنه في إجازة لعدة أيام ومسافر خارج البلاد حتى لا يسألوا عنه أو يجيبوا عائلة كاميليا التي سيسألون عنه بالتأكيد فهم على علم بعلاقتها به وسيعرفون بأنها معه . قطعت عليه كاميليا أفكاره عندما جاءته في غرفته وهي مازالت ترتدي عباءتها وحجابها ملفوف حول عنقها وشعرها مرفوع وعينيها حمراوين من البكاء . جلست على الأرض واستندت على الجدار وهي تحاول أن تمنع نفسها من الانخراط في نوبة بكاء جديد . قالت له :
- أشرقت الشمس..أنا خائفة يا عماد.
نهض من سريره واقترب منها . قال لها مطمئنا :
- سيكون كل شيء بخير .
انفعلت وهي تخبره عن مخاوفها وبما قد يفعله والدها وسألته عن الخطوة المقبلة . امسك بيدها وخرجا وجلسا في أحد زوايا الاستراحة مستندان على المساند الأنيقة . اخبرها بأنه سيتصل بوالدها ليلا وسيخبره بأنها معه في مكان ما خارج الشرقية وابنته لن تعود للبيت قبل أن يتزوجا ، وسيطلب منه أن يعقد قرانهما بأسرع وقت فنتائج التحليل الطبي قد أجرياها وهي ملائمة ولا داعي للمماطلة تجنبا للفضيحة وليقتصر الأمر على عائلتيهما . سألته إذا ما كان ينوي إخبار عائلته ، تنهد وهو يتذكر عيني أمه ويتخيل ردة فعلها . زم شفتيه وقال :
- سأخبرهم بكل تأكيد .
سكتت للحظات ثم سألته بخوف :
- ماذا لو لم نتزوج بعد كل هذا ؟ ..ماذا لو عاند والدي ؟
- الخوف من الفضيحة سيجعله يوافق .
قال لها ذلك وحاول أن يخف من توترها ويخفي عنها توتره ومخاوفه . ضمها إليه بحنان فأغمضت عينيها وأحاطته بذراعيها ونامت بسرعة بأثر الحبوب التي تناولتها . استيقظت في الواحدة ظهرا ووجدت نفسها على السرير بعباءتها واللحاف يغطيها في مكان غريب لم تألفه قبلا . ليست غرفتها الزهرية ولا غرفة نومها التعيسة في بيت ناصر . لم تدرك أين هي فنهضت بسرعة وخرجت من الغرفة ورأت عماد أمامها فاسترجعت كل ما حدث البارحة وأدركت ما فعلته ، فلقد هربت من بيت والدها فجرا مع حبيبها وبكل تأكيد عائلتها تبحث عنها الآن .

ابتسم وطلب منها أن تصلي لكي يخرجا لتناول الغداء فهو يشعر بالجوع . سارا في شارع الهدلة متجهين إلى الخبر وتناولا طعامهما بلا شهية وهما يفكران بما سيحدث لاحقا . تمشيا في كورنيش الخبر لبعض الوقت وذهبا لأحد المتاجر الغذائية واشتريا التفاح وبعض المعجنات والخبز ، والبسكويتات والعصير والكولا والماء . كما اشترى عماد عددا من الجرائد واشترى لكاميليا مجلة علها تتصفحها وتبعد تفكيرها المحصور في عائلتها وما يفعلونه الآن .

 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه
ما قبل الأخير
الفصل 39

تناولت كاميليا وعماد عشاء خفيفا وسكبت لها كأسا من الكولا وراحت تشرب بنهم وهي تراقب عماد الجالس بقربها وعينيه الغامضتين تعبر عن حيرة يعيشها . أغمضت عينيها للحظة وهي تسترجع ما حدث قبل خمس سنوات ، عندما رأته لأول مرة بنظرة مختلفة . ضايقها بنظراته التي غزت قلبها وجعلها تستلم لحبه . أستخدم لباقته ولطفه وأحاطها باهتمامه وسط استنكارها لهذا الحب الغريب . كثيرا ما كانت تتساءل عن توقيت حبهما ولماذا لم يحبها عماد قبلا وهي صديقة أخته ويعرفها منذ الطفولة . تنهدت وكلمة النصيب ترن في أذنها فمن كان يصدق بان يحدث لها ما حدث .
- سأتصل بناهد لأجس النبض .
قالت له ذلك فأومأ برأسه موافقا وأمسكت بهاتفه واتصلت بناهد التي أجابت بحذر على هذا الرقم الغريب . قالت لها والدموع تتجمع في عينيها :
- أنا كاميليا .
سألتها بخوف وقلق :
- أين أنت كاميليا ؟.. هل هربت مع عماد فعلا ؟
كاد قلبها يتوقف وناهد تخبرها بان والديها اكتشفا عدم وجودها في المنزل عندما استيقظا لصلاة الفجر وجاءا صباحا ليسألا عنها وأخبرتهما بأنها لا تعرف شيئا عنها ، ومن ثم اتصلت بشذى التي أخبرتها بالحقيقة . بكت وهي تشعر برعشة خوف تسري في جسدها وناهد تخبرها بما حصل باختصار :
- أمك اتصلت بنسرين وأمل وهما لا تعرفان شيئا بعد .. ويبدو هروبك سيجعل والدك يتصالح مع والدي فهو معه منذ العصر ويتناقشان في حل المشكلة ومتيقنين بأنك مع عماد وسيتصلوا بعائلته .

أنهت كاميليا حديثها مع ناهد واتصلت بأمل لترى ما حدث وكيف وصل لها الأمر . قالت لها أمل باستغراب حالما سمعت صوتها :
- كيف تتصلين من هاتف ابن عمي ؟
- هو الحبيب المجهول الذي لا تعرفون هويته الحقيقة .
صعقت أمل فهذا ما لم تفكر به أبدا أن تكون صديقتها على علاقة بابن عمها المتزوج ، والذي حكت لها عنه ولقاءاتها به وقصة حبهما . أخبرتها أمل بأنها لم تسمع بان احد اتصل بعمها ليسال عن عماد ويعلمه عن هروبهما سويا والأوضاع في العائلة هادئة . بلعت كاميليا ريقها وقالت لصديقتها :
- لقد خرجت من منزل والدي وأنا مع عماد .
- ولماذا فعلت هذا ؟
- هذه قصة طويلة ليس لدي وقت لشرحها الآن .
شعرت كاميليا بالخوف فوالدها لم يتصل بعائلة عماد وهو يعرف بأنها معه . أخبرته بصراحة بأنها تحبه وتريد الزواج به وهربت في الليلة ذاتها ولا بد أنه يدبر أمرا ما . طلبت من عماد أن يتصل به ليتفاوض معه فهي تخشى أن يتصل بالشرطة ، واتصل رغم اقتناعه بان والدها لن يفعل ذلك فسيحمله الكثير من التبعات والفضائح . ضغط على زر مكبر الصوت وظل يستمع لنغمة الهاتف بتوتر وكاميليا تبكي وأجاب والدها بعد الرنة الثالثة . وما أن عرفه بنفسه حتى انهال عليه بالشتائم وسأله عن كاميليا . حاول عماد أن يكون ثابتا وهادئا في حديثه معه فاخبره بان كاميليا معه وهروبهما كان من أجل إجباره على الزواج ووضعه أمام الأمر الواقع ، وبين له بأن الحل الوحيد هو تسهيل الزواج وإلا سيواجه فضيحة كبيرة كلما ازدادت أيام اختفاء ابنته عن البيت . طلب منه أن يتحدث مع كاميليا ، فقالت له ودموعها تغرق وجهها وتقطع كلامها :
- سامحني يا والدي ولكنك دفعتني لهذا الفعل .. زوجتني بابن أخيك رغما عني .. وعندما أصبحت حرة رفضت زواجي بعماد الذي طلبني للزواج بشرع الله .
أكمل عماد الحديث مع والدها الذي فقد أعصابة وراح يشتمه بألفاظ نابية . طلب منه الموافقة على الزواج واخبره بأنه أجرى مع كاميليا تحاليل قبل الزواج ويستطيعان عقد قرانهما في أي وقت . واخذ الخال سيعد الهاتف وتحدث مع عماد بهدوء وطلب منه أن يأتي لحل الأمر معهم وان يحضر كاميليا معه قبل أن ينتصف الليل . لكن عماد قال له :
- سآتي لمقابلتكم بشروطي .

اشترط عماد أن يجتمعوا في منزل هو سيحدده لاحقا وقد فكر بمنزل ماجد أو فيصل وسيتواجد الشيخ ليعقد قرانهما مباشرة ولن يروا كاميليا إلا عندما توقع في ورقة العقد . طلب منه الخال مهلة ليطرح الفكرة على والد كاميليا وسيعاود الاتصال به لاحقا . مر الوقت ببطء وهما جالسين وساكتين ينتظران أن يتصل والد كاميليا أو خالها ليخبراهما بموافقتهما على الزواج . بعد قليل رن هاتف عماد وأمه المتصلة وتسأله عن مكان وجوده فأم كاميليا اتصلت بها وأخبرتها بكل ما حدث . صرخت فيه بانفعال :
- خمس سنوات وأنت تخفي عنا علاقتك بها .. كيف أمكنك أن تخدعنا بهذه الطريقة المخزية ؟.. وكيف تمكنت عديمة الحياء من ذلك وهي تتظاهر بأنها صديقة نسرين وتدخل بيتنا باستمرار .
بلع ريقه وطلب من أمه التحلي بالهدوء وعدم الإساءة لكاميليا ، لكنها أكملت حديثها بغضب :
- وكيف لا أسيئ لها وهي التي هربت من منزل والديها مع رجل متزوج .. والدك غير مصدق وأنا كذلك بأنك تهرب مع منحلة توفي زوجها قبل أربعة أشهر .
أخبرها بأنهما سيتزوجان خلال أيام وما أن تعود ريم من سفرها سيطلقها ، فصرخت فيه وقالت له كلمتها الخيرة قبل أن تقفل :
- صلي على محمد واعدها لعائلتها ولا داعي للفضائح .. هل جننت ؟ لا بد أنها سحرتك .. عد لرشدك وسنخلصك من هذه الساقطة مهما حدث بينكما .. حتى لو كانت حامل .
تنهد واخبرها بأنه سيبقى مع كاميليا حتى النهاية ، فقاتل له بلهجة تهديد :
- لو تزوجت منها فأنسى والديك وعائلتك .. لن اسمح لك بالزواج من (...) هربت معها ولن نلطخ اسم عائلتنا .. ومنذ الآن لا دخل لنا بك وتصرف مع عائلتها ولا تتصل بنا مهما حدث .

انتهت المكالمة وجاءته مكالمة نسرين الغير مصدقة لما يحدث . لم يشأ الحديث معها وأعطى الهاتف لكاميليا فتحدثت معها ولامتها بكلمات قليلة على كل شيء . علاقتها السرية بعماد ، واستمرار لقاءاتها به وهي متزوجة ومن ثم هروبها معه ، وكررت بأنها ما تزال غير مستوعبة بان حبيب صديقتها المجهول يكون شقيقها . بكت كاميليا وهي تعيش لحظات صعبة جدا من حياتها . انتحبت بحرقة فلم تتخيل يوما بأنها ستعيش هذا الموقف وأنها ستهرب من بيت والدها مع الرجل الذي تحبه والدنيا كلها تلومها الآن . طلب منها عماد أن تهدأ فبكاءها يوتره لم تتمكن من السيطرة على أعصابها التي بدأت تخونها وهي تسمع عماد يتفاوض مع والدها وخالها عبر الهاتف ويطالبانه بعودتهما الليلة . تذكرت أحلامها وأفكارها بأن تجعل حبها لعماد مثلا لما يجب أن يكون عليه الحب هنا . الحب الطاهر الذي كانت تتباهى به صار تشوبه المحرمات وها هي تتوجه بفضيحة .

************

الليلة الثانية وهي خارج البيت وفي مكان لا يعلم أحد بوجودها فيه مع حبيبها المجهول الذي لم يعد مجهولا فالكل يعرف هويته . ابتدءا بنسرين ونهاية بوالدها . نامت في غرفة وعماد في الغرفة المقابلة . نامت بجانب الحيرة والخوف والقلق ، وفتحت عينيها على صوت عماد وهو يقف بجانبها ويطلب منها بابتسامة أن تنهض فلقد اعد الفطور . أمسكت بيده عندما مدها لها وذهبت إلى الحمام ، ثم جلست لتناول الفطور في الخارج . أكلت الساندويتش الذي أعدها واستطاع أن ينتزع منها ابتسامة عندما قال :
- عليك أن تدلليني بعد أن نتزوج .. فأنا أدللك كثيرا .
سكت للحظة ثم أردف وهو يتأمل وجهها :
- أنت جميلة والنوم يترك آثاره على وجهك وبشرتك المخملية .. تبدين كقطعة سكر فعلا .
رشفت رشفة من الشاي وابتسمت عندما مازحها :
- أنا وسيم أيضا حتى بدون أن احلق ذقني .

ضحك وأكملا فطورهما ومن ثم استأذنها ليستحم فطلبت منه أن يدعها تستحم أولا وتفاجأت بأنها لم تجلب لها منشفة . أعطاها عماد منشفته وجلس ينتظر خروجها وهو يتصفح المجلة . لم تتأخر فخرجت بعد دقائق هي تلف المنشفة على جسدها وشعرها المبلل ودخلت الغرفة . وعندما أرادت أن تقفل الباب جاءها وهو يمعن النظر لها بصمت . طلبت منه أن يذهب ليستحم فقال بابتسامة :
- أريد منشفتي لأستحم .
اقترب منها بشوق فابتعدت عنه واستندت على الحائط وطلبت منه أن يخرج ويدعها ترتدي ملابسها . حاصرها بذراعيه ، وابتعد عنها ونظرة اعتذار تلوح في عينيه عندما قالت :
- أنا في نظر عائلتي والناس ساقطة وأريد أن أبقى شريفة أمام الله .

*************


اقتربت من عماد الذي اتصل بماجد يخبره بما جرى وطلب منه أن لا يوجه له أي لوم فالوقت غير مناسب . طلب منه أن يستعد لاستقبال عائلة كاميليا والشيخ لعقد قرانهما مساء اليوم وطلب منه أن يعلمه عندما يأتي والد كاميليا ويصبح كل شيء جاهزا . وافقه ماجد على مضض وأعلن له دعمه رغم استنكاره لتصرفه الغير مسؤول . اتصل بوالد كاميليا يخبره بان عقد القران سيكون الليلة في منزل صديقه وطلب منه أن يكون مستعدا وأن لا يصحب معه سوى خالها وسيخبره بمكان المنزل في الوقت المناسب .

دخل عماد منزله بصحبة كاميليا التي ترى البيت الذي حلمت به وساعدت على تصميمه وتأثيثه لأول مرة . جلست في الركن الفرنسي ولم تستطيع أن تمنع نفسها من البكاء وهي ترى تمثال برج إيفل . كم كانت برئيه وقتها والآن هي مجرمة في نظر عائلتها ومجتمعها ومدينتها . تنهدت وقالت :
- أنا خائفة .. أشعر قلبي سيتوقف .. ماذا لو اعد لنا والدي كمينا ؟
- لا يستطيع .. ولهذا أنا جعلت الاجتماع في منزل ماجد وسأخبره بكل خطوة في حينها .

بكت وعماد يتصل بماجد الذي ذهب ليحضر الشيخ لمنزله كما اتفقا وأتصل بوالد كاميليا وأعطاه وصف المنزل في " المحمدية " ليلتقوا هناك ، وأتصل بفيصل وطلب منه أن يذهب أيضا . وعندما دقت الساعة الثامنة والنصف كان عماد يوقف سيارته بحذر أمام منزل ماجد الذي وقف ينتظره خارجا ودعاها للدخول إلى الصالة وأخبره بأن الجميع ينتظرونه . جاءت زوجة ماجد واستقبلت كاميليا ودعتها للجلوس حتى يحين دورها في عقد القران ويسألها الشيخ عن موافقتها .

ذهب عماد برفقة صديقه لمجلس الرجال وما أن رآه والد كاميليا حتى نهض من مكانه واقترب منه بسرعة وهو يشتمه . دفعه الغضب وانفعال وهو يصرخ غير مبال بوجود الشيخ :
- كيف تمكنت من ذلك يا ملعون .. يا حيوان .. و ..
ظل عماد ساكتا ولم يقم بأي حركة ووالد كاميليا يحاول خنقه ، وبسرعة تدخل ماجد وفيصل وطلبا منه أن يهدأ فما حصل قد حصل والشجار والانفعال غير مجد الآن . طلب ماجد من الشيخ الإسراع بإجراءات الزواج فبدأ الشيخ وسأل عماد عن المهر وهذا ما قد نسيه ، فاخرج من محفظته خمسمائة ريال . ومن ثم طلب الشيخ أن يرى العروس ويسألها رأيها فذهبوا جميعا إلى الصالة وهناك كانت كاميليا مع زوجة ماجد بالانتظار . أخذ الخال سعيد ورقة العقد لابنة أخته ووقعت ووقع هو مع ماجد كشاهدين وأكتمل عقد القران وخرج الشيخ مع فيصل من الصالة . بقيت كاميليا ووالدها وخالها وعماد . رمت نفسها على الأرض أمام قدمي والدها وبكت بشدة ووالدها يقول لها :
- هل أنت سعيدة بعد أن تزوجت بهذه الطريقة المخزية ؟
طلبت منه أن يسامحها فهز رأسه وقال بغضب :
- أنا برئ منك حتى يوم القيامة .. حتى عندما أموت لا تحضري فاتحتي .. أمك منهارة وتبكي في المنزل بسببك .. لطخت شرف عائلتنا يا كلبه .. يا ملعونة .
حاول سعيد أن يلين موقفه مذكرا إياه بأنها ستظل ابنته مهما حدث وعليه أن لا يتخلى عنها ، وطلب من كاميليا أن تعتذر منه وتقبل رأسه فاقتربت منه بتردد وقال لها :
- لا تقتربي مني .. لا أريد أن اعرف عنك شيئا .
 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه
الأخير

الفصل 40





أخيرا أصبح عماد وكاميليا زوجين بعد قصة حب دامت أكثر من خمس سنوات . بذلت كاميليا جهدها لتحافظ على حبهما طاهرا وشريفا . قصة حب لم تحلم بها ووجدت نفسها تعيشها بجمالها وعذابها وسريتها وعواقبها . حكاية حب سعودية مكللة بالفضيحة كما قالت لها أمل ، ولو قرأتها أو سمعت عنها لما تخيلت نفسها مع عماد أبطالها الحقيقيين .
ظلت علاقة عماد بعائلته مقطوعة فهم رافضين لزواجه من كاميليا . طرده والده من منزله ومن الشركة أيضا تحت تأثير أمه لترغمه على التخلي عن كاميليا فأصبح بلا عمل . وجاءته أخته ندى عدة مرات تطلب منه أن يعود لرشده ويكسب عائلته لكنه رفض ذلك فكاميليا هي المرأة التي يحب ولن يتخلى عنها بعد أن أصبحت زوجته . عادت ريم من لندن بعد أيام من زواج عماد الذي طلقها بسرعة ورفض أي مواجهة معها في ظل غضب وسخط العائلة كلها من تصرفاته .

استقبلت كاميليا أمها وأختيها في منزلها الزوجي عدة مرات سرا عن والدها الذي فرض مقاطعتها . تسامحت من أمها وطلبت من عماد أن يفعل ذلك ففعل ، كما جاءت نسرين وأمل لزيارتها وبرغم ما حدث والتعقيدات الحاصلة لم تتأثر صداقتهما . عاتبتاها ولامتاها ومن ثم هنأتاها على زواجها بالحبيب المجهول وهنأتا عماد فهو يستحق السعادة . ظل عماد في عزلة عائلية لا يزوره غير فيصل ونسرين ، وقرار طرده من الشركة كان الصعب فهو لم يتعود أن يعمل في أي مكان غير شركة الغانم . شعر بضيق كبير ازداد عندما بدأت كاميليا عملها فأصبح يجلس في البيت وزوجته خارجا . فكر بمشروع يبدأ به فنصحه ماجد بشراء محفظة أسهم في احد البنوك وبالبدء بالاستثمار في سوق الأسهم المحلية والعالمية ووجده حلا مناسبا .

************

" بأيام البرد وأيام الشتي
والرصيف بحيرة والشارع غريق
تحي هاك البنت من بيتنا العتيق
ويقلا أنطريني ونتظر عالطريق
ويروح وينساها وتدبل بالشتي
حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي
نطرتك بالصيف نطرتك بالشتي
وعيونك بالصيف وعيوني بالشتي
ملقانا يا حبيبي
خلف الصيف وخلف الشتي .. "

أطفأ عماد صوت الموسيقى عندما اتصلت به كاميليا تسأله عن سبب تأخره في العودة للمنزل وأخبرها بأنه سيصل خلال دقائق . وصل ودخل بلهفة وشوق وهو يحمل لها ورود الكاميليا البيضاء التي تعود تقديمها لها منذ بداية حبهما . وجدها بانتظاره في الركن الفرنسي كما كان يحلم دائما بان يجدها تنتظره بعينيها الذابحتين والكحل السود وحبة الخال في زاوية فمها وأريج " الور " مستقر برقة على جلدها . نهضت من الأريكة وركضت نحوه تعانقه بلهفة فقبلها وجلس بجانبها ويده تبعثر شعرها بشقاوة ، وعينيه السوداويين تتأملان ملامح وجهها المبتهج . قدم لها الورود وبعثر قبلاته على وجهها وزاوية فمها . وعندما فاجأها بتذاكر السفر إلى باريس كاد أن يغمى عليها . شكرته بدلال وسعادة وهي تبتعد عنه وهو يلحق بها وعينيه على ساقيها وظهرها العاري :
- أريد أن اجلس في الحديقة الداخلية .
اومأ برأسه وامسك بيدها ومشيا سويا نحو الحديقة الداخلية . جلسا بالقرب من بعضهما وطلب منها أن تضع له طعام الغذاء فهو جائع ، وضحك من قلبه عندما قالت له بأنها أعدت له شكشوكة . حملها بين ذراعيه وهو يتوعد بمعاقبتها وهي تضحك لمعرفتها بالعقاب . ذهبا لغرفة نومهما في الجانب الأيسر من المنزل أو جهة القلب كما تقول هي . أغلقت الباب وعماد يحاصرها بعينيه وقبلاته وهمساته . اقترب منها وضمته إليها وقالت له بسعادة بأنها تريده قريب منها دائما ، لن يكون اقرب إلا وهو بين ذراعيها ، تشاركه نسمات الهواء الداخله لرئتيه وتسمع دقات قلبه النابض بحبها .



~ النهاية ~

 

شاعرة الليل

¬°•| عضو مميز |•°¬
إنضم
11 أبريل 2012
المشاركات
377
الإقامة
ارض الله الواسعه
أتمنى أن تروق لكم الرواية

بجميع فصولها و أحداثها

شخصياتها و أفكارها

دمت أحبتي رواد هذا الصرح الراقي

من أعضاء و زوار كرام

بكل سعادة و هناء

دمتم بكل ود و إحترام

لكم تحياتي مع وافر الشكر
 
أعلى