الثمرات النفسية للإيمان بالقضاء والقدر

خالد الشامسي

:: فريق التغطيات التطويري ::
إنضم
21 يوليو 2012
المشاركات
3,729

::الثمرات النفسية::



للإيمان بالقدر ثمرات نفسية جميلة تعود على صاحبها بالراحة، والطمأنينة والسكينة، وتُضفي عليه أمناً، وهدوءَ بال، ومن ذلك ما يلي:


1_ محاربة اليأس: فالذي لا يؤمن بالقدر يصيبه اليأس، ويدِبُّ إلى روُعه القنوط؛ فإذا أصيب ببلية ظن أنها قاصمة ظهره، وإذا نزلت به نازلة حسب أنها ضربة لازب لن تبارحه.
وكذلك إذا رأى ما عليه الباطل من صولة وجولة، وما عليه أهل الحق من ضعف وتخاذل ظن أن الباطل سيستمر، وأن الحق سيضمحل؛ فاليأس سم قاتل، وسجن مظلم، يُعَبِّسُ الوجه، ويصد النفس عن الخير، ولا يزال بالإنسان حتى يهلكه، أو ينغص عليه حياته.



أما المؤمن بالقدر فلا يعرف اليأس، ولا تراه إلا متفائلاً في جميع أحواله، منتظراً الفرج من ربه، عالماً بأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسراً.
وتراه موقناً تمام اليقين بأن العاقبة للتقوى، وللمتقين، وأن قدر الله في ذلك نافذ لا محالة، فلا يتسلل إليه اليأس مهما احلولكت ظلمة الباطل؛ فاعتماد القلب على قدرة الله، ولطفه، وكرمه يستأصل جراثيم اليأس، ومنابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباعَ الضاريةَ في فلواتها([1]).


2_ قوة الاحتمال: فالمؤمنون بالقدر حقاً هم أقوى الناس نفوساً، وأكثرهم احتمالاً، وأقلهم جزعاً _ كما مر في المبحث الثاني _ والذين لا يؤمنون بالقدر يجزعون لأتفه الأسباب، بل ربما أدى بهم الجزع إلى الجنون، والوسوسة، وتعاطي المخدرات، وقتل النفس.



ولذلك يكثر الانتحار في البلاد التي لا يؤمن أهلها بالقضاء والقدر، كأمريكا والسويد، والنرويج، وغيرها، بل لقد وصل الأمر ببعض البلاد إلى فتح مستشفيات للانتحار!
ولو بحثنا عن أسباب انتحارهم لوجدناها تافهةً جداً، لا تستدعي سوى التغافل وغض البصر عنها؛ فبعضهم ينتحر؛ لتخلي خطيبته عنه، وبعضهم بسبب رسوبه في الامتحان، وبعضهم بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، أو الشخص الذي يعجبه، أو بسبب هزيمة الفريق الذي يميل إليه وهكذا. . .
وقد يكون الانتحار جماعياً، والعجيب في الأمر أن غالبية المنتحرين ليسوا من طبقة الفقراء حتى يقال: انتحروا؛ لضيق معيشتهم.
بل إنهم من الطبقة الغنية المغرقة في النعيم، بل ويقع الانتحار من المشاهير، بل ومن الأطباء النفسيين الذي يُظَنُّ أنهم يجلبون السعادة، ويحلون المشكلات! ([2]) .


ولقد أصبح الانتحار سمة بارزة في تلك المجتمعات، وصارت نسبته تتزايد، وتهدد الحضارة الغربية بأكملها.
ولقد أقلق الانتحار علماء الاجتماع في تلك البلاد؛ حيث أصبح عدد المنتحرين يفوق عدد القتلى في الحروب، وفي حوادث السيارات.


ومن الأشياء التي استحدثوها للتخفيف من الانتحارات المتزايدة إنشاء مراكز تتلقى مكالمات المقدمين على الانتحار، أو من لديهم مشكلات عاطفية، أو الذين يعانون ضيق الصدر.
والعجيب أن يكون للانتحار مؤيدون؛ حيث تكونت في بريطانيا جمعية للمنتحرين، وأصدرت كتيباً، وأخذت توزعه على أعضائها الذين يحبذون ويؤيدون حق المرضى بالانتحار عندما يتألمون، وعندما يقرر الطبيب أن حالتهم ميؤوس منها.
وقد نص الكتيب على الوسائل السريعة والفعالة، وغير المؤلمة التي يمكن أن تساعد الساعين إلى الانتحار على تنفيذ رغبتهم! ([3]).
ترى لو كانوا يؤمنون بالله وبقدره، هل يكون هذا مصيرهم؟


3_ القناعة وعزة النفس: فالمؤمن بالقدر يعلم بأن رزقه مكتوب، وأنه لن يموت حتى يستوفيه، وأن الرزق لا يجلبه حرص حريص، ولا يمنعه حَسَدُ حاسدٍ، وأن الخلق مهما حاولوا إيصال الرزق إليه، أو منعه عنه فلن يستطيعوا إلا بشيء قد كتبه الله له.
ومن هنا ينبعث إلى القناعة بما أوتي، وإلى عزة النفس والإجمال في الطلب، وإلى التحرر من رق الخلق ومنَّتِهم.
ولا يعني ذلك أن نفسه لا تطمح إلى المعالي، وإنما يعني القناعة بما يأتيه من عرض الدنيا بعد فعل الأسباب، بعيداً عن الشح، والهلع والتكالب، وإراقة ماء الوجه.


وإذا رزق العبد القناعة أشرقت عليه شمس السعادة. وإن كان بعكس ذلك تنغصت حياته، وزادت آلامه وحسراته، بسبب نفسه الجشعة الشرهة، ولو مسَّتها القناعة لقلَّت مصائبه؛ لأن الشَّرِهَ سجين المطالب، أسير الشهوات.
ثم إن القناعة تضفي على صاحبها عزة النفس، وتحرز له وقاراً في العيون، وجلالة في القلوب، وترفعه عن مواضع الذل والمهانة، فيبقى مهيب الجناب، موفور الكرامة، مرفوع الرأس، مرتاح الضمير، سالماً من الهوان، متحرراً من رق الأهواء ومن ذل الطمع، فلا ينطلق في مجاري التملق والمداهنة، ولا يسير إلا وَفْقَ ما يمليه عليه إيمانه، والحق الذي يحمله ([4]).
وبالجملة فالذي يحسم مادة رجاء المخلوقين من القلب هو الرضا بقسم الله _عز وجل_ فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق موضع في قلبه.
ومن جميل ما يذكر في هذا الشأن ما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-قوله:


أفادتني القناعة كلَّ عزٍّ***وهل عزٌّ أعزُّ من القناعهْ


فَصَيِّرْها لنفسِك رأسَ مالٍ***وصَيِّر بعدها التقوى بضاعهْ


تَحُزْ ربحاً وتَغْنى عن بخيلٍ***وتنعم في الجنان بصبر ساع
هْ ([5])ْ


وقال الشافعي -رحمه الله-:


رأيت القناعة كنز الغنى***فصرت بأذيالها مُمْتَسك


فلا ذا يراني على بابه***ولا ذا يراني به منهمك


وصرت غنياً بلا درهمٍ***أمُرُّ على الناس شبه الملك
([6])


وقال الثعالبي([7]): (ومن أحسن ما سمعت في القناعة قول ابن طباطبا العلوي([8]):


كن بما أوتيته مقتنعاً***تَسْتَدِم عسر القنوع المكتفي


إن في نيل المنى وشْكَ الردى***وهلاك المرء في ذا السرف
([9])


4_ الاعتدال حال السراء والضراء: فالإيمان بالقدر يحمل على الاعتدال في سائر الأحوال؛ ذلك أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يتقلب في أحوال عديدة؛ فقد يبتلى بالفقر، وقد ينال نصيباً وافراً من الدنيا، وقد ينعم بالصحة، وقد يبتلى بالأمراض، وقد ينال ولايةً وشهرةً وبُعْدَ صيتٍ، وقد يعقب ذلك عزلٌ، وذلٌٌّ، وخمولُ ذكرٍ.
ولهذه الأمور وأمثالها أثر على النفس؛ فالفقر قد يقود إلى الذلة والخنوع، والغنى قد تتغير به أخلاق اللئيم بطراً، وتسوء طرائقه أشراً.


والمرض قد يتغير به الطبع، فلا تبقى الأخلاق على اعتدال، ولا يقدر معه المرء على احتمال.
وكذا الولاية قد تحدث في الأخلاق تغيراً، وعلى الخلطاء تنكراً، إما من لؤم طبع، وأما من ضيق صدر.
وفي مقابل ذلك العزلُ؛ فقد يسوء به الخلق، ويضيق به الصدر؛ إما لشدة أسف، أو لقلة صبر.
وهكذا لا تستقيم الأحوال على حد الاعتدال؛ لأن في العباد قصوراً، وجهلاً، وضعفاً، ونقصاً.


إلا من آمن بالقدر حقيقة؛ فلا تبطره النعمة، ولا تُقَنِّطه المصيبة؛ فلا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزل في حسرة، ولا يحمله الغنى على الأشر والبطر، ولا ينحط به الفقر إلى الذلة والخضوع([10]).
فالمؤمنون بالقدر يتلقون المسارَّ والمحابَّ بقبول لها، وشكر لله عليها، واستعانة بها على أمور الدين والدنيا، فيحصل لهم من جرَّاء ذلك من الخيرات والبركات ما تتضاعف به مسراتهم.


ويتلقون المكاره بالرضا، والاحتساب، والتحمل، والمقاومة لما يمكنهم مقاومته، وتخفيف ما يمكنهم تخفيفُه، وبالصبر الجميل لما لابد لهم منه، فيحصل لهم بسبب ذلك خيرات عظيمة تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة([11]).


يقول عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله-أصبحت والسراء والضراء مطيتان على بابي؛ لا أبالي أيهما ركبت) ([12]).


5_ سكون القلب وطمأنينة النفس، وراحة البال: فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقدر، وهي داخلة في كثير مما مضى ذكره من الثمرات، وهي مطلبٌ مُلِحٌ، وهدف منشود، وغاية مُبْتَغاةٌ؛ فكل من في الأرض يبتغيها، ويبحث عنها، ويسعى لها سعيها، ولكن كما قيل:


كل من في الوجود يطلب صيداً***غير أن الشباك مختلفاتُ


فلا يدرك هذه الأمور، ولا يجد حلاوتها، ولا يعلم ثمراتها _ إلا من آمن بالله وقضائه وقدره؛ فالمؤمن بالقدر ساكن القلب، مطمئن النفس، مرتاح البال، لا يفكر كثيراً في احتمال الشر، ثم إن وقع لم يطِرْ له قلبه شَعاعاً، بل يتحمل ذلك بثبات وصبر؛ إن مرض لم يضاعف مرضه بوهمه، وإن نزل به مكروه قابله بجأش رابط فخفف حدته؛ فمن الحكمة ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقع الشر، والألم بحصول الشر.


بل يسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه، فإذا حدثت قابلها بشجاعة واعتدال.
وإنك لتجد عند خواصِّ المسلمين من العلماء العاملين، والعباد القانتين المتبعين من سكون القلب وطمأنينة النفس ما لا يخطر ببال، ولا يدور حول ما يشبهه خيال؛ فلهم في ذلك الشأن القِدْحُ المعلى، والنصيب الأوفى([13]).


فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله-: يقول: "أصبحت وما لي سرورٌ إلافي مواضع القضاء والقدر" ([14]).


وهذا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية -رحمه الله-: يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" ([15]).
ويقول مقولته المشهورة عندما زُجَّ به في غياهب السجن: "ما يصنع أعدائي بي؛ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ أين رُحْت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة" ([16]).


بل إنك واجدٌ عند عوام المسلمين من سكون القلب، وراحة البال، وبرد اليقين ما لا تجده عند كبار المفكرين والكتاب والأطباء من غير المسلمين ([17])؛ فكم من الأطباء من غير المسلمين _ على سبيل المثال _ من يعجب، ويذهب به العَجَبُ كل مذهب إذا أشرف على علاج مريض مسلم، وتبين له أنه مصاب بداء خطير _ كالسرطان مثلاً _ فترى هذا الطبيب يحتار في كيفية إخبار المريض بِعلَّته، فتجده يقَدِّم رجلاً ويؤَخِّر أخرى، وتجده يمهد الطريق، ويضع المقدمات، كل ذلك خشيةً من شدة تأثر المريض بسماع هذا الخبر.
وما إن يُعْلِمَُهُ بمرضه، ويصارحه بعلته _ إلا ويفاجأ بأن هذا المريض يستقبلالخبر بنفس راضية، وصدر رحب، وسكينة عجيبة.


لقد أدهش كثيراً من غير المسلمين إيمانُ المسلمين بالقضاء والقدر، فكتبوا في هذا الشأن معبرين عن دهشتهم، مسجلين شهادتهم بقوة عزائم المسلمين، وكبر نفوسهم، وحسن استقبالهم لصعوبات الحياة.
فهذه شهادة حق من قوم حرموا الإيمان بالله، وبقضائه وقدره.


ومليحةٍ شهدت لها ضراتها***والفضل ما شهدت به الأعداءُ


ومن هؤلاء الذين كتبوا في هذا الشأن ذلك الكاتب المشهور =ر.ن.س.بودلي مؤلف كتابَي: "رياح على الصحراء" و"الرسول وأربعة عشر كتاباً آخر"، والذي أورد رأيه ديل كارنيجي([18]) في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة) في مقالة بعنوان "عشت في جنة الله".


يقول بودلي: (في عام 1918م ولَّيت ظهري العالمَ الذي عرفته طيلة حياتي، ويممت شطر أفريقيا الشمالية الغربية، حيث عشت بين الأعراب في الصحراء، وقضيت هناك سبعة أعوام، أتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام، حتى إنني ألفت كتاباً عن محمد" عنوانه (الرسول) وكانت تلك الأعوام السبعة عشر التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرُّحَّل من أمتع سني حياتي، وأحفلها بالسلام، والاطمئنان، والرضا بالحياة.
وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق؛ فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأَخْذِ الحياة مأخذاً سهلاً هَيِّنَاً، فهم لا يتعجلون أمراً، ولا يلقون بأنفسهم بين براثن الهم قلقاً على أمر.
إنهم يؤمنون بأن ما قُدِّر يكون، وأن الفرد منهم لن يصيبه إلا ما كتب الله له. وليس معنى هذا أنهم يتواكلون، أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي، كلاَّ.


ثم أردف قائلاً: (ودعني أضرب لك مثلاً لما أعنيه: هَبَّتْ ذات يوم عاصفةٌ عاتيةٌ حملت رمال الصحراء، وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط، ورمت بها وادي (الرون) في فرنسا، وكانت العاصفة حارةً شديدةَ الحرارة، حتى أحسست كأن رأس شعري يتزعزع من منابته؛ لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوع إلى الجنون.


ولكنَّ العربَ لم يشْكُوا إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة: "قضاء مكتوب".
لكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير، فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء. فعلوا هذا كله في صمت وهدوء، دون أن تبدو من أحدهم شكوى.


قال رئيس القبيلة _ الشيخ _: (لم نفقد الشيء الكبير؛ فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شيء، ولكن حمداً لله وشكراً؛ فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ عملنا من جديد).
ثم قال بودلي: (وثمة حادثة أخرى، فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوماً، فانفجر أحد الإطارات، وكان السائق قد نسي استحضار إطار احتياطي، وتولاني الغضب، وانتابني القلق والهم، وسألت صحبي من الأعراب: ماذا عسى أن نفعل؟.


فذكروني بأن الاندفاع إلى الغضب لن يجدي فتيلاً، بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق.
ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاثة إطارات ليس إلا، ولكنها ما لَبِثَتْ أن كفَّت عن السير، وعَلِمْتُ أن البنزين قد نفد. وهنالك _ أيضاً _ لم تَثُرْ ثائرةُ أحدٍ من رفاقي الأعراب، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يذرعون الطريق سيراً على الأقدام).


وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق قائلاً: (قد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرُّحل _ أن الملتاثين، ومرضى النفوس، والسِّكِّيرين الذين تحفل بهم أمريكا وأوربا ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساساً لها. إنني لم أعانِ شيئاً من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء، بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة، والقناعة، والرضا).


وأخيراً ختم كلامه بقوله: (وخلاصة القول: أنني بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على مغادرتي الصحراء _ ما زلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأستقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة. ولقد أفلحت هذه الطباعُ التي اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آلاف المسكِّنات والعقاقير الطبية) ([19]).
---------

([1]) انظر رسائل الإصلاح للشيخ محمد الخضر حسين 1/58_59 و 70، والحرية في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين ص33.


([2]) انظر على سبيل المثال كتاب: لماذا انتحر هؤلاء، إعداد وتوثيق هاني الخيِّر، ففيه قصص انتحار لشخصيات سياسية، وعسكرية، وأدبية، واجتماعية، وفنية.


([3]) انظر أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم لمصطفى غزال ص109_111، والتوبة لمحمد بن إبراهيم الحمد ص246_258.


([4]) انظر رسائل الإصلاح 1/9_12 و 124_125.


([5]) ديوان الإمام علي ص121_122.


([6]) ديوان الإمام الشافعي ص27.


([7]) هو أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري 356هـ _429هـ، من كبار الأدباء واللغويين والكتاب والمصنفين، سُمِّي بالثعالبي نسبة إلى خياطة جلود الثعالب وعملها؛ قيل له ذلك لأنه كان فرَّاءاً، له تواليف كثيرة منها (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) وهو أكبر كتبه وأحسنها، وله (فقه اللغة وسر العربية)، و(سحر البلاغة وسر البراعة). انظر وفيات الأعيان 3/178_180.


([8]) هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم طَبَاطَبَا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، شاعر مُفِْلق وعالم محقق، مولده بأصبهان وبها مات سنة 322هـ، ولهعَقِب كثير بأصبهان فيهم علماء وأدباء، وهو مصنف كتاب عيار الشعر، وكتاب تهذيب الطبع، وغيرها. انظر معجم الأدباء 5/97_106.


([9]) أحسن ما سمعت للثعالبي ص22.


([10]) انظر كلاماً جميلاً في هذا المعنى في كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي ص287_290.


([11]) انظر الهمة العالية ص221_230.


([12]) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبدالعزيز الخليفة الخائف الخاشع لعمر بن محمد الخضر المعروف بالملاء، تحقيق د. محمد صدقي البورنو 2/436.


([13]) انظر كلاماً جميلاً في هذا المعنى في كتاب الوسائل المفيدة للحياة السعيدة للشيخ عبدالرحمن السعدي ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبدالرحمن السعدي قسم الثقافة الإسلامية 2/481_495.


([14]) جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/287، وانظر سيرة عمر بن عبدالعزيز لابن عبدالحكم ص97.


([15]) الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم ص69، والشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي الكرمي الحنبلي ص34.


([16]) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/402، وانظر الوابل الصيب ص69.


([17]) يقول ابن تيمية ×: =فأما الذي أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم من اليقين والمعرفة _ فأمرٌ يجلُّ عن الوصف، ولكن عند عوامِّهم من اليقين، والعلم النافع ما لم يحصل منه شيء لأئمة المتفلسفة المتكلمين، وهذا ظاهر مشهود لكل أحد( نقض المنطق) لابن تيمية ص26.


([18]) هو الأمريكي المؤسس لمعهد العلاقات الإنسانية بنيويورك، مؤلف كتاب (دع القلق وابدأ الحياة) وكتاب (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس)، وقد سرت كتبه في الناس وتُرجمت إلى لغات عديدة. انظر مقدمة (دع القلق وابدأ الحياة) تعريب عبدالمنعم الزيَّادي.


([19]) دع القلق وابدأ الحياة، ديل كارنيجي ص291_295، وانظر الإيمان بالقضاء والقدر وأثره على القلق النفسي لطريفة بنت سعود الشويعر ص74_75.[/size]
[/color]

([19]) دع القلق وابدأ الحياة، ديل كارنيجي ص291_295، وانظر الإيمان بالقضاء والقدر وأثره على القلق النفسي لطريفة بنت سعود الشويعر ص74_75.




مبحث مستل من كتاب الإيمان بالقضاء والقدر
للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد-حفظه الله-
تقديم/ سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز-رحمه الله-​
 

سعود الظاهري

:: إداري سابق ومؤسس ::
إنضم
15 أكتوبر 2007
المشاركات
6,861
الإقامة
الجنـ هي الهدف ـة
::الثمرات النفسية::



للإيمان بالقدر ثمرات نفسية جميلة تعود على صاحبها بالراحة، والطمأنينة والسكينة، وتُضفي عليه أمناً، وهدوءَ بال، ومن ذلك ما يلي:


1_ محاربة اليأس: فالذي لا يؤمن بالقدر يصيبه اليأس، ويدِبُّ إلى روُعه القنوط؛ فإذا أصيب ببلية ظن أنها قاصمة ظهره، وإذا نزلت به نازلة حسب أنها ضربة لازب لن تبارحه.
وكذلك إذا رأى ما عليه الباطل من صولة وجولة، وما عليه أهل الحق من ضعف وتخاذل ظن أن الباطل سيستمر، وأن الحق سيضمحل؛ فاليأس سم قاتل، وسجن مظلم، يُعَبِّسُ الوجه، ويصد النفس عن الخير، ولا يزال بالإنسان حتى يهلكه، أو ينغص عليه حياته.



أما المؤمن بالقدر فلا يعرف اليأس، ولا تراه إلا متفائلاً في جميع أحواله، منتظراً الفرج من ربه، عالماً بأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسراً.
وتراه موقناً تمام اليقين بأن العاقبة للتقوى، وللمتقين، وأن قدر الله في ذلك نافذ لا محالة، فلا يتسلل إليه اليأس مهما احلولكت ظلمة الباطل؛ فاعتماد القلب على قدرة الله، ولطفه، وكرمه يستأصل جراثيم اليأس، ومنابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباعَ الضاريةَ في فلواتها([1]).


2_ قوة الاحتمال: فالمؤمنون بالقدر حقاً هم أقوى الناس نفوساً، وأكثرهم احتمالاً، وأقلهم جزعاً _ كما مر في المبحث الثاني _ والذين لا يؤمنون بالقدر يجزعون لأتفه الأسباب، بل ربما أدى بهم الجزع إلى الجنون، والوسوسة، وتعاطي المخدرات، وقتل النفس.



ولذلك يكثر الانتحار في البلاد التي لا يؤمن أهلها بالقضاء والقدر، كأمريكا والسويد، والنرويج، وغيرها، بل لقد وصل الأمر ببعض البلاد إلى فتح مستشفيات للانتحار!
ولو بحثنا عن أسباب انتحارهم لوجدناها تافهةً جداً، لا تستدعي سوى التغافل وغض البصر عنها؛ فبعضهم ينتحر؛ لتخلي خطيبته عنه، وبعضهم بسبب رسوبه في الامتحان، وبعضهم بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، أو الشخص الذي يعجبه، أو بسبب هزيمة الفريق الذي يميل إليه وهكذا. . .
وقد يكون الانتحار جماعياً، والعجيب في الأمر أن غالبية المنتحرين ليسوا من طبقة الفقراء حتى يقال: انتحروا؛ لضيق معيشتهم.
بل إنهم من الطبقة الغنية المغرقة في النعيم، بل ويقع الانتحار من المشاهير، بل ومن الأطباء النفسيين الذي يُظَنُّ أنهم يجلبون السعادة، ويحلون المشكلات! ([2]) .


ولقد أصبح الانتحار سمة بارزة في تلك المجتمعات، وصارت نسبته تتزايد، وتهدد الحضارة الغربية بأكملها.
ولقد أقلق الانتحار علماء الاجتماع في تلك البلاد؛ حيث أصبح عدد المنتحرين يفوق عدد القتلى في الحروب، وفي حوادث السيارات.


ومن الأشياء التي استحدثوها للتخفيف من الانتحارات المتزايدة إنشاء مراكز تتلقى مكالمات المقدمين على الانتحار، أو من لديهم مشكلات عاطفية، أو الذين يعانون ضيق الصدر.
والعجيب أن يكون للانتحار مؤيدون؛ حيث تكونت في بريطانيا جمعية للمنتحرين، وأصدرت كتيباً، وأخذت توزعه على أعضائها الذين يحبذون ويؤيدون حق المرضى بالانتحار عندما يتألمون، وعندما يقرر الطبيب أن حالتهم ميؤوس منها.
وقد نص الكتيب على الوسائل السريعة والفعالة، وغير المؤلمة التي يمكن أن تساعد الساعين إلى الانتحار على تنفيذ رغبتهم! ([3]).
ترى لو كانوا يؤمنون بالله وبقدره، هل يكون هذا مصيرهم؟


3_ القناعة وعزة النفس: فالمؤمن بالقدر يعلم بأن رزقه مكتوب، وأنه لن يموت حتى يستوفيه، وأن الرزق لا يجلبه حرص حريص، ولا يمنعه حَسَدُ حاسدٍ، وأن الخلق مهما حاولوا إيصال الرزق إليه، أو منعه عنه فلن يستطيعوا إلا بشيء قد كتبه الله له.
ومن هنا ينبعث إلى القناعة بما أوتي، وإلى عزة النفس والإجمال في الطلب، وإلى التحرر من رق الخلق ومنَّتِهم.
ولا يعني ذلك أن نفسه لا تطمح إلى المعالي، وإنما يعني القناعة بما يأتيه من عرض الدنيا بعد فعل الأسباب، بعيداً عن الشح، والهلع والتكالب، وإراقة ماء الوجه.


وإذا رزق العبد القناعة أشرقت عليه شمس السعادة. وإن كان بعكس ذلك تنغصت حياته، وزادت آلامه وحسراته، بسبب نفسه الجشعة الشرهة، ولو مسَّتها القناعة لقلَّت مصائبه؛ لأن الشَّرِهَ سجين المطالب، أسير الشهوات.
ثم إن القناعة تضفي على صاحبها عزة النفس، وتحرز له وقاراً في العيون، وجلالة في القلوب، وترفعه عن مواضع الذل والمهانة، فيبقى مهيب الجناب، موفور الكرامة، مرفوع الرأس، مرتاح الضمير، سالماً من الهوان، متحرراً من رق الأهواء ومن ذل الطمع، فلا ينطلق في مجاري التملق والمداهنة، ولا يسير إلا وَفْقَ ما يمليه عليه إيمانه، والحق الذي يحمله ([4]).
وبالجملة فالذي يحسم مادة رجاء المخلوقين من القلب هو الرضا بقسم الله _عز وجل_ فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق موضع في قلبه.
ومن جميل ما يذكر في هذا الشأن ما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-قوله:


أفادتني القناعة كلَّ عزٍّ***وهل عزٌّ أعزُّ من القناعهْ


فَصَيِّرْها لنفسِك رأسَ مالٍ***وصَيِّر بعدها التقوى بضاعهْ


تَحُزْ ربحاً وتَغْنى عن بخيلٍ***وتنعم في الجنان بصبر ساع
هْ ([5])ْ


وقال الشافعي -رحمه الله-:


رأيت القناعة كنز الغنى***فصرت بأذيالها مُمْتَسك


فلا ذا يراني على بابه***ولا ذا يراني به منهمك


وصرت غنياً بلا درهمٍ***أمُرُّ على الناس شبه الملك
([6])


وقال الثعالبي([7]): (ومن أحسن ما سمعت في القناعة قول ابن طباطبا العلوي([8]):


كن بما أوتيته مقتنعاً***تَسْتَدِم عسر القنوع المكتفي


إن في نيل المنى وشْكَ الردى***وهلاك المرء في ذا السرف
([9])


4_ الاعتدال حال السراء والضراء: فالإيمان بالقدر يحمل على الاعتدال في سائر الأحوال؛ ذلك أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يتقلب في أحوال عديدة؛ فقد يبتلى بالفقر، وقد ينال نصيباً وافراً من الدنيا، وقد ينعم بالصحة، وقد يبتلى بالأمراض، وقد ينال ولايةً وشهرةً وبُعْدَ صيتٍ، وقد يعقب ذلك عزلٌ، وذلٌٌّ، وخمولُ ذكرٍ.
ولهذه الأمور وأمثالها أثر على النفس؛ فالفقر قد يقود إلى الذلة والخنوع، والغنى قد تتغير به أخلاق اللئيم بطراً، وتسوء طرائقه أشراً.


والمرض قد يتغير به الطبع، فلا تبقى الأخلاق على اعتدال، ولا يقدر معه المرء على احتمال.
وكذا الولاية قد تحدث في الأخلاق تغيراً، وعلى الخلطاء تنكراً، إما من لؤم طبع، وأما من ضيق صدر.
وفي مقابل ذلك العزلُ؛ فقد يسوء به الخلق، ويضيق به الصدر؛ إما لشدة أسف، أو لقلة صبر.
وهكذا لا تستقيم الأحوال على حد الاعتدال؛ لأن في العباد قصوراً، وجهلاً، وضعفاً، ونقصاً.


إلا من آمن بالقدر حقيقة؛ فلا تبطره النعمة، ولا تُقَنِّطه المصيبة؛ فلا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزل في حسرة، ولا يحمله الغنى على الأشر والبطر، ولا ينحط به الفقر إلى الذلة والخضوع([10]).
فالمؤمنون بالقدر يتلقون المسارَّ والمحابَّ بقبول لها، وشكر لله عليها، واستعانة بها على أمور الدين والدنيا، فيحصل لهم من جرَّاء ذلك من الخيرات والبركات ما تتضاعف به مسراتهم.


ويتلقون المكاره بالرضا، والاحتساب، والتحمل، والمقاومة لما يمكنهم مقاومته، وتخفيف ما يمكنهم تخفيفُه، وبالصبر الجميل لما لابد لهم منه، فيحصل لهم بسبب ذلك خيرات عظيمة تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة([11]).


يقول عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله-أصبحت والسراء والضراء مطيتان على بابي؛ لا أبالي أيهما ركبت) ([12]).


5_ سكون القلب وطمأنينة النفس، وراحة البال: فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقدر، وهي داخلة في كثير مما مضى ذكره من الثمرات، وهي مطلبٌ مُلِحٌ، وهدف منشود، وغاية مُبْتَغاةٌ؛ فكل من في الأرض يبتغيها، ويبحث عنها، ويسعى لها سعيها، ولكن كما قيل:


كل من في الوجود يطلب صيداً***غير أن الشباك مختلفاتُ


فلا يدرك هذه الأمور، ولا يجد حلاوتها، ولا يعلم ثمراتها _ إلا من آمن بالله وقضائه وقدره؛ فالمؤمن بالقدر ساكن القلب، مطمئن النفس، مرتاح البال، لا يفكر كثيراً في احتمال الشر، ثم إن وقع لم يطِرْ له قلبه شَعاعاً، بل يتحمل ذلك بثبات وصبر؛ إن مرض لم يضاعف مرضه بوهمه، وإن نزل به مكروه قابله بجأش رابط فخفف حدته؛ فمن الحكمة ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقع الشر، والألم بحصول الشر.


بل يسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه، فإذا حدثت قابلها بشجاعة واعتدال.
وإنك لتجد عند خواصِّ المسلمين من العلماء العاملين، والعباد القانتين المتبعين من سكون القلب وطمأنينة النفس ما لا يخطر ببال، ولا يدور حول ما يشبهه خيال؛ فلهم في ذلك الشأن القِدْحُ المعلى، والنصيب الأوفى([13]).


فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله-: يقول: "أصبحت وما لي سرورٌ إلافي مواضع القضاء والقدر" ([14]).


وهذا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية -رحمه الله-: يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" ([15]).
ويقول مقولته المشهورة عندما زُجَّ به في غياهب السجن: "ما يصنع أعدائي بي؛ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ أين رُحْت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة" ([16]).


بل إنك واجدٌ عند عوام المسلمين من سكون القلب، وراحة البال، وبرد اليقين ما لا تجده عند كبار المفكرين والكتاب والأطباء من غير المسلمين ([17])؛ فكم من الأطباء من غير المسلمين _ على سبيل المثال _ من يعجب، ويذهب به العَجَبُ كل مذهب إذا أشرف على علاج مريض مسلم، وتبين له أنه مصاب بداء خطير _ كالسرطان مثلاً _ فترى هذا الطبيب يحتار في كيفية إخبار المريض بِعلَّته، فتجده يقَدِّم رجلاً ويؤَخِّر أخرى، وتجده يمهد الطريق، ويضع المقدمات، كل ذلك خشيةً من شدة تأثر المريض بسماع هذا الخبر.
وما إن يُعْلِمَُهُ بمرضه، ويصارحه بعلته _ إلا ويفاجأ بأن هذا المريض يستقبلالخبر بنفس راضية، وصدر رحب، وسكينة عجيبة.


لقد أدهش كثيراً من غير المسلمين إيمانُ المسلمين بالقضاء والقدر، فكتبوا في هذا الشأن معبرين عن دهشتهم، مسجلين شهادتهم بقوة عزائم المسلمين، وكبر نفوسهم، وحسن استقبالهم لصعوبات الحياة.
فهذه شهادة حق من قوم حرموا الإيمان بالله، وبقضائه وقدره.


ومليحةٍ شهدت لها ضراتها***والفضل ما شهدت به الأعداءُ


ومن هؤلاء الذين كتبوا في هذا الشأن ذلك الكاتب المشهور =ر.ن.س.بودلي مؤلف كتابَي: "رياح على الصحراء" و"الرسول وأربعة عشر كتاباً آخر"، والذي أورد رأيه ديل كارنيجي([18]) في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة) في مقالة بعنوان "عشت في جنة الله".


يقول بودلي: (في عام 1918م ولَّيت ظهري العالمَ الذي عرفته طيلة حياتي، ويممت شطر أفريقيا الشمالية الغربية، حيث عشت بين الأعراب في الصحراء، وقضيت هناك سبعة أعوام، أتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام، حتى إنني ألفت كتاباً عن محمد" عنوانه (الرسول) وكانت تلك الأعوام السبعة عشر التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرُّحَّل من أمتع سني حياتي، وأحفلها بالسلام، والاطمئنان، والرضا بالحياة.
وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق؛ فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأَخْذِ الحياة مأخذاً سهلاً هَيِّنَاً، فهم لا يتعجلون أمراً، ولا يلقون بأنفسهم بين براثن الهم قلقاً على أمر.
إنهم يؤمنون بأن ما قُدِّر يكون، وأن الفرد منهم لن يصيبه إلا ما كتب الله له. وليس معنى هذا أنهم يتواكلون، أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي، كلاَّ.


ثم أردف قائلاً: (ودعني أضرب لك مثلاً لما أعنيه: هَبَّتْ ذات يوم عاصفةٌ عاتيةٌ حملت رمال الصحراء، وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط، ورمت بها وادي (الرون) في فرنسا، وكانت العاصفة حارةً شديدةَ الحرارة، حتى أحسست كأن رأس شعري يتزعزع من منابته؛ لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوع إلى الجنون.


ولكنَّ العربَ لم يشْكُوا إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة: "قضاء مكتوب".
لكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير، فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء. فعلوا هذا كله في صمت وهدوء، دون أن تبدو من أحدهم شكوى.


قال رئيس القبيلة _ الشيخ _: (لم نفقد الشيء الكبير؛ فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شيء، ولكن حمداً لله وشكراً؛ فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ عملنا من جديد).
ثم قال بودلي: (وثمة حادثة أخرى، فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوماً، فانفجر أحد الإطارات، وكان السائق قد نسي استحضار إطار احتياطي، وتولاني الغضب، وانتابني القلق والهم، وسألت صحبي من الأعراب: ماذا عسى أن نفعل؟.


فذكروني بأن الاندفاع إلى الغضب لن يجدي فتيلاً، بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق.
ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاثة إطارات ليس إلا، ولكنها ما لَبِثَتْ أن كفَّت عن السير، وعَلِمْتُ أن البنزين قد نفد. وهنالك _ أيضاً _ لم تَثُرْ ثائرةُ أحدٍ من رفاقي الأعراب، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يذرعون الطريق سيراً على الأقدام).


وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق قائلاً: (قد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرُّحل _ أن الملتاثين، ومرضى النفوس، والسِّكِّيرين الذين تحفل بهم أمريكا وأوربا ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساساً لها. إنني لم أعانِ شيئاً من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء، بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة، والقناعة، والرضا).


وأخيراً ختم كلامه بقوله: (وخلاصة القول: أنني بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على مغادرتي الصحراء _ ما زلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأستقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة. ولقد أفلحت هذه الطباعُ التي اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آلاف المسكِّنات والعقاقير الطبية) ([19]).
---------

([1]) انظر رسائل الإصلاح للشيخ محمد الخضر حسين 1/58_59 و 70، والحرية في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين ص33.


([2]) انظر على سبيل المثال كتاب: لماذا انتحر هؤلاء، إعداد وتوثيق هاني الخيِّر، ففيه قصص انتحار لشخصيات سياسية، وعسكرية، وأدبية، واجتماعية، وفنية.


([3]) انظر أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم لمصطفى غزال ص109_111، والتوبة لمحمد بن إبراهيم الحمد ص246_258.


([4]) انظر رسائل الإصلاح 1/9_12 و 124_125.


([5]) ديوان الإمام علي ص121_122.


([6]) ديوان الإمام الشافعي ص27.


([7]) هو أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري 356هـ _429هـ، من كبار الأدباء واللغويين والكتاب والمصنفين، سُمِّي بالثعالبي نسبة إلى خياطة جلود الثعالب وعملها؛ قيل له ذلك لأنه كان فرَّاءاً، له تواليف كثيرة منها (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) وهو أكبر كتبه وأحسنها، وله (فقه اللغة وسر العربية)، و(سحر البلاغة وسر البراعة). انظر وفيات الأعيان 3/178_180.


([8]) هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم طَبَاطَبَا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، شاعر مُفِْلق وعالم محقق، مولده بأصبهان وبها مات سنة 322هـ، ولهعَقِب كثير بأصبهان فيهم علماء وأدباء، وهو مصنف كتاب عيار الشعر، وكتاب تهذيب الطبع، وغيرها. انظر معجم الأدباء 5/97_106.


([9]) أحسن ما سمعت للثعالبي ص22.


([10]) انظر كلاماً جميلاً في هذا المعنى في كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي ص287_290.


([11]) انظر الهمة العالية ص221_230.


([12]) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبدالعزيز الخليفة الخائف الخاشع لعمر بن محمد الخضر المعروف بالملاء، تحقيق د. محمد صدقي البورنو 2/436.


([13]) انظر كلاماً جميلاً في هذا المعنى في كتاب الوسائل المفيدة للحياة السعيدة للشيخ عبدالرحمن السعدي ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبدالرحمن السعدي قسم الثقافة الإسلامية 2/481_495.


([14]) جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/287، وانظر سيرة عمر بن عبدالعزيز لابن عبدالحكم ص97.


([15]) الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم ص69، والشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي الكرمي الحنبلي ص34.


([16]) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/402، وانظر الوابل الصيب ص69.


([17]) يقول ابن تيمية ×: =فأما الذي أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم من اليقين والمعرفة _ فأمرٌ يجلُّ عن الوصف، ولكن عند عوامِّهم من اليقين، والعلم النافع ما لم يحصل منه شيء لأئمة المتفلسفة المتكلمين، وهذا ظاهر مشهود لكل أحد( نقض المنطق) لابن تيمية ص26.


([18]) هو الأمريكي المؤسس لمعهد العلاقات الإنسانية بنيويورك، مؤلف كتاب (دع القلق وابدأ الحياة) وكتاب (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس)، وقد سرت كتبه في الناس وتُرجمت إلى لغات عديدة. انظر مقدمة (دع القلق وابدأ الحياة) تعريب عبدالمنعم الزيَّادي.


([19]) دع القلق وابدأ الحياة، ديل كارنيجي ص291_295، وانظر الإيمان بالقضاء والقدر وأثره على القلق النفسي لطريفة بنت سعود الشويعر ص74_75.
[/color]

([19]) دع القلق وابدأ الحياة، ديل كارنيجي ص291_295، وانظر الإيمان بالقضاء والقدر وأثره على القلق النفسي لطريفة بنت سعود الشويعر ص74_75.



[/SIZE]

مبحث مستل من كتاب الإيمان بالقضاء والقدر
للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد-حفظه الله-
تقديم/ سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز-رحمه الله-​





ركن من أركان الايمان وجب التصديق والعمل به


يعطيك العافية
 

أمير ورد

¬°•| مشرف سابق |•°¬
إنضم
1 يناير 2013
المشاركات
854
الثمرات النفسية للإيمان بالقضاء والقدر..... ماأجمل مانقل... رائع في الأنتقاء.... الله يعطيك العافية


نترجا جديدك ...سلمت اياديك الرائعة .....في ميزان حسناتك
 
أعلى